#روسيا والبراغماتية | د. علي عبدالله سيّد

*البراغماتية *
هي مدرسة سياسية شأنها شأن المدارس السياسية الأخرى ( كالماركسية والواقعية والمثالية .. وغير ذلك ) . تركز على النتائج الإيجابية والمنفعة والثمار المستحصلة التي تؤثر على سلوكنا بشكل إيجابي من الأفكار والقيم والمعايير الأخرى . يقول الفيلسوف ويليام جيمس “إن كل ما يؤدي بنا إلى النجاح فهو حقيقي وإن كل ما يعطينا أكبر قسط من الراحة وما هو صالح لأفكارنا ومفيد لنا بأي حال من الأحوال فهو حقيقي”، فكل فكرة ناجحة لا بد أن يكون لها مردود إيجابي على صاحبها وقد طبقت هذه النظرية على كثير من مجالات الحياة إن لم تكن جميعها , فهي طبقت على السياسة والاقتصاد والدين والاخلاق والادب والفن .. وغير ذلك .

يستخدم هذا المصطلح في السياسة ، فيقال : فلان براغماتي ، والحركة الفلانية حركة براغماتية ، وفي أغلب الأحوال يقصد بها النفعية أو من يغلب الجانب العملي على النظري والجانب النفعي على المبادئ.

• تتمتع روسيا بثقل سياسي مهم على مستوى المشهد الدولي، فهي الوريث السياسي والعسكري للإتحاد السوفييتي السابق، بالإضافة إلى الطبيعة الجيوسياسية التي تتمتع بها روسيا من حيث الموقع الجغرافي ما بين آسيا وأوروبا، ووجود منابع للنفط والغاز وهذا يجعلها طرفاً محورياً وفعالاً على المستوى الدولي. كانت توجهات السياسة الخارجية لروسيا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي من أهم المعضلات التي واجهتها في ظل المعطيات الجديدة، وفي ظل تشكل نظام دولي أحادي القطبية الذي تحاول الولايات المتحدة الأميركية التفرد به وتزعمه فكان هناك إتجاهان رئيسيان:

– الإتجاه الأول: يرى ضرورة الإهتمام بالمشكلات الداخلية وإيجاد الحلول لها قبل الإنصراف إلى الشؤون الخارجية، وتطبيق مبدأ العزلة خلال المرحلة الإنتقالية الصعبة للتفرغ لعملية إعادة البناء في الداخل.

– الإتجاه الثاني: يرى ضرورة اتباع سياسة خارجية نشطة وفعّالة، والحفاظ على المكانة الدولية لروسيا كإحدى القوى العظمى.

– روسيا والشرق الأوسط:

قامت سياسة روسيا الخارجية في الشرق الأوسط بعد مجيء الرئيس فلاديمير بوتين على مجموعة من الإعتبارات تشكل الإطار العام الذي يحكم سياسة روسيا الراهنة تجاه أزمات المنطقة وأهمها البراغماتية في التعاطي مع الأزمات أي توطيد علاقاتها مع الفاعلين المختلفين وذلك لتأمين مصالحها الحيوية على كافة الأصعدة.

ويأتي في أولى هذه الإعتبارات:

1- المزاحمة الإستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية من أجل إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي، والتي تعتمد المشاغبة المستمرة والمُنهكة للولايات المتحدة الأميركية كإحدى وسائلها .

2– المصالح الإقتصادية الروسية في منطقة الشرق الأوسط، فإن طبيعة التعاملات الروسية مع دول المنطقة مختلفة حالياً عما كان عليه الحال في الفترات السابقة التي كانت تعتمد بالأساس على العنصر الأيديولوجي الذي كان يتغلب في معظم الأحيان على المنطق الإقتصادي.

3- البعد الأمني: فالسياسة الخارجية الروسية تنطلق من رؤية ترتكز على إيلاء أهمية للقيمة الجغرافية والإستراتيجية لمنطقتنا بإعتبارها تمثل مكان الصدارة في سلم الإهتمامات العلمية، وأنه لا يمكن لأي نظام عالمي أن يتشكل بعيداً عن تلك المنطقة الإستراتيجية.

• التدخلات الخارجية

– نتيجة الحضور والتدخل الروسي في العام 2008، تم استقلال إقليمي “أوسيتيا” و “أنجازيا” عن جمهورية جورجيا، مستقطعة عنها الجزء الكبير من الساحل الشرقي للبحر الأسود، بدعم واعتراف روسي وتدخل عسكري جريء، كان مفاجأة لأوروبا وحلف “الناتو”، وبداية للحضور الدولي الفاعل للدولة الروسية وقدراتها العسكرية، والكشف عن مكوناتها الإستراتيجية.

– أما الحالة مع أوكرانيا فهي مختلفة تماماً بالنسبة لأوروبا من جهة، وبالنسبة للمصلحة الإستراتيجية العليا الروسية من جهة أكبر، فروسيا تعتبر أوكرانيا حديقتها الأمامية، ومجالها الحيوي، وفي الذاكرة التاريخية الروسية فإن أوكرانيا هي روسيا الصغيرة التي تطل من خلالها على حوض البحر الأسود في كامل ساحله الشمالي، إبتداءً من مدينة “أوديسا” قرب الحدود الرومانية والملدافية وحتى الساحل الشرقي عند “إنجازيا” في جورجيا وضمن هذا الساحل تطل على شبه جزيرة القرم الجوهرة الروسية المودعة في أوكرانيا.

ولقد أكدت سياسة الرئيس بوتين خلال الأزمة الأوكرانية عن قدرتها على فرض تطوراتها والتصدي لمحاولات الهيمنة الغربية، بالإضافة إلى تطبيق إستراتيجيات طويلة الأمد لتحقيق المصالح الروسية، والتعامل ببراغماتية مع التحولات الدولية والإقليمية.

– يقول الرئيس الروسي بوتين أن القوات الروسية الموجودة في سوريا منذ سنة 2015 ستبقى هناك ما دامت موسكو ترى مصلحة في ذلك معتبراً أن وجود قواته هناك يُعد “أداة فريدة لتطوير أداء الجيش الروسي” ويضيف الرئيس بوتين “عسكريونا موجودين في سوريا لتأمين مصالح روسيا في المنطقة ذات الأهمية الحيوية وسيبقون هناك ما دامت روسيا ترى مصلحة في ذلك، كما أوضح سابقاً بقوله “أن سقوط دمشق يعني سقوط موسكو”.

خلاصة القول فإن القيادة الروسية تعمل ضمن مصالحها الإستراتيجية وأمنها القومي فتهادن وتحاور وتدعم وتنسق وتتواصل وتعقد التفاهمات والصفقات مع الجميع بدءاً من سوريا والسعودية وتركيا وصولاً إلى إيران وإسرائيل وكل دول المنطقة من خلال تكتيك وبراغماتية موصوفة ومشهودٌ لها، فالأساس في علاقة أي دولة بالأخرى هي المصلحة الثابتة لها، وهذه السطور ليست لتوجيه اللوم أو الإنتقاد للسياسة الروسية لإتباعها السياسة البراغماتية فهذا من حقها فعلاقات الدول ببعضها البعض هي علاقة مصالح، ولكن اللوم والإنتقاد هو لسياسة دولنا وذلك لعدم إعتمادهم على سياسة المصالح وعدم أخذ العبرة من تجاربنا وتجارب الآخرين فما زلنا نتخبط ونتقاتل ونختلف على أتفه الأمور من دون أن ننظر للمستقبل وننظم أمورنا وعلاقاتنا الخارجية ونضع خطط إستراتيجية براغماتية لمصالحنا العليا، ليكون لدينا سياسة براغماتية منتجة وفاعلة ومؤثرة بطريقة اكثر إيجاباً وأغزر إنتاجاً، وذلك تصديقاً لما قاله الفيلسوف ديوي ”كل ما يرشدنا إلى الحق هو حق”، وإيماناً بمقولة “آية الحق النجاح وآية الباطل الفشل”.

د. علي عبدالله سيّد | باحث في العلاقات الدولية