عندما حرّك "حزب الله" صواريخَه

حسمت طهران خيارَها بعدم التفاوض مع واشنطن على الأقل من الآن وحتى موعد الانتخابات الأميركية، وبذلك تكون إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب خسرت رهانها بجلب إيران الى طاولة المفاوضات تحت ضغط العقوبات القاسية.وكان وزير الخارجية الاميركية السابق جون كيري نصح شريكه في وضع الاتفاق النووي وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف بعدم الرضوخ لضغوط ترامب وانتظار موعد الانتخابات الاميركية لأنّ وصول المرشح الديموقراطي سيقلب الامور ويعيدها الى ما قبل وصول ترامب الى البيت الابيض.

لكنّ ذهاب طهران الى خيار المواجهة بدل التفاوض لم يرتكز على نصيحة كيري فحسب، بل على قراءة أعمق لمجمل المشهد، فالاستراتيجية الاميركية التي أُعلنت خلال وجود باراك اوباما في البيت الابيض ركّزت على أولوية احتواء صعود الصين على المسرح العالمي كقوة اقتصادية هائلة، ومن خلال ذلك بسط نفوذها ومقارعة النفوذ الاميركي.

هذه الاستراتيجية لم تتغير مع وصول ترامب الى البيض الابيض، ولكن ما تَغيَّر هو الاسلوب. وهو ما ظهر في المعالجة لصواريخ كوريا الشمالية المدعومة بالكامل من الصين، والاتفاق مع ايران او المواجهة يدخلان في نطاق ترتيب الساحة لاحتواء الصين.

إدارة اوباما اختارت الاتفاق مع طهران والتغاضي عن مصالحها في مقابل التفرغ للملف الصيني على أمل ردّ طهران التحية الاميركية بالمثل. أما إدارة ترامب فرأت انّ الاتفاق كان ناقصاً، حيث لا بد من وجود تفاهمات صريحة حيال كيفية مساعدة واشنطن في مواجهة الصين. فنقضت الاتفاق ورفعت مستوى الضغوط أملاً في الوصول الى تفاهمات سياسية واضحة، وهو ما لم يحصل، ولا يبدو أنه سيحصل على الاقل حتى موعد الانتخابات الاميركية.
وكما انّ ايران تحسب بدقة لنزاعها مع ادارة ترامب، فإنّ الصين وكذلك روسيا تحسبان لأهداف واشنطن الحقيقية وكيفية إجهاضها.

وترى القيادة الصينية في إشغال واشنطن بالمأزق الإيراني، من خلال العمل على مساعدة ايران للصمود، ولكن من دون استفزاز واشنطن، مصلحةً صينيةً قصوى في هذه المرحلة. وكذلك ترى روسيا وحتى تركيا. وبدل أن تنجح واشنطن في خنق الاقتصاد الإيراني بعد إجراءات ايار الماضي، عملت بكين على فتح أسواقها امام النفط الايراني ولو بكميات محدودة، وحجّتها في ذلك أنها بحاجة ماسّة للنفط بسبب تصاعد نموّ اقتصادها. وكذلك عمدت روسيا الى شراء قسم آخر من النفط الإيراني بأسعار ملائمة لتقوم بعدها ببيعه بأسعار السوق الى اوروبا. أما تركيا فتولّت جزءاً آخر. هذه الإجراءات خفضت من وطأة الأزمة الاقتصادية في ايران وسمحت لها بمقارعة واشنطن. صحيح انّ هنالك ازمة اقتصادية في ايران، لكنها ليست بالحدّة او الخطورة التي يجري تصويرها، مع الإشارة الى ارتياح طهران لأوروبا وعملتها اليورو. وتأمل الصين جراء ذلك في شراء الوقت وتأخير الاندفاعة الاميركية باتّجاهها. لدرجة انّ مركز دراسات أسترالي اورد تقريراً يعكس تراجع الثقة بالهيبة الأميركية في منطقة المحيط الهادئ، ومعتبراً انّ هذا يحمل تداعيات خطيرة على حلفاء واشنطن مثل أستراليا وتايوان واليابان. ووفق التقرير نفسه بأنّ الميزانية العسكرية للصين ارتفعت لتصل الى 178 مليار دولار سنوياً، علماً أنه يسود اعتقاد أنّ الرقم الحقيقي أكبر بكثير.

وبالتالي فإنّ عناوين التوتر بين واشنطن وطهران والمتعلقة بمسائل الشرق الأوسط لا تحمل المحتوى الحقيقي والفعلي للصراع. بل على العكس فهو يفيد الصفقات العسكرية الاميركية. وتتحضّر ايران لمقارعة الضغوط الاميركية من خلال سياسة هجومية، وهو ما تجلّى بوضوح مع خطوة إسقاط الطائرة الاميركية. بل ووفق معلومات دقيقة فإنّ مرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي أعطى اوامره للجيش الإيراني بضرب السفن العسكرية الإسرائيلية في حال ظهورها في مياه الخليج فوراً ومن دون الرجوع اليه. لكن الواضح انّ ايران التي تواجه بسلوك هجومي لا تريد الحرب، وكذلك الولايات المتحدة الاميركية، لكنّ الطرفين يسيران على الحافة وهو مسار صعب ويحمل الكثير من المخاطر.

السلوك الإيراني الهجومي أقلق الإمارات التي أوفدت رئيس مخابراتها الى ايران لتنظيم الخلافات بين البلدين وإيجاد ضوابط لأيِّ انزلاق قد يحصل بسبب خطورة اللعبة. والواضح انّ للإمارات والبحرين وضعاً خاصاً. وفي التأكيد على سلوكها الهجومي، جاء إسقاط الطائرة الاميركية ولو بعد حرص ايران على تجنّب سقوط قتلى للجيش الاميركي كي لا تصبح الامور في مقلب آخر.

وتكشف المعلومات انّ «حزب الله» حرّك يومها صواريخه في جنوب لبنان وهو ما رصدته بالتأكيد أجهزة الرصد الإسرائيلية، بل أكثر فإنّ المعلومات تقول إنّ مجموعات «حزب الله» المتمركزة في الجنوب تبادلت الرسائل المشفّرة ّعبر أجهزة الإرسال، والتي تؤشر للاستعداد للمواجهة، وهي تعرف انّ اسرائيل تراقب كل ذلك، وكانت الرسالة واضحة. لكنّ واشنطن التي ردّت على التحديات الإيرانية بتزويد إسرائيل طائرات «اف 35» الأكثر تطوّراً في العالم، اختارت استعراض قوتها في العراق حيث قصفت مواقع للحشد الشعبي. هي اختارت تجنّب لبنان وحتى سوريا وتوجيه رسائلها النارية الى العراقيين، وعلى أساس قطع التواصل بين ايران و»حزب الله» عبر العراق. كل ذلك يعني انّ المنطقة ستعيش على وقع التوترات من الآن وحتى موعد الانتخابات الأميركية، وانّ هذه التوترات قد تشمل لبنان، ربما ليس أمنياً، بل سياسياً واقتصادياً.

مع الاشارة الى انّ آخر استطلاعات الرأي الاميركية تشير الى تراجع في تأييد ترامب وهو ما يعني ايضاً انّ الأجواء المتوترة لن تسمح بترسيم الحدود البرّية والبحرية جنوب لبنان رغم انّ المبعوث الاميركي الجديد السفير ديفيد شينكر سيطل منتصف الشهر المقبل.

عدا عن انّ الانتخابات الإسرائيلية قد تشهد مفاجآت محتمَلة تزيد حدّة التشنّجات. فالوضع الانتخابي لنتنياهو حرج. ربما هذا ما قصده رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عندما تحدث عن معطيات جديدة وضعت ملف الاستراتيجية الدفاعية جانباً.