زيارة وزير الخارجية الفنزويلي بين "الإحراج" و"التحدّي".

في طريقه إلى ​سوريا​، حطّ وزير خارجية الجمهورية البوليفارية الفنزويلية خورخي ارياسا في لبنان، حيث اقتصر جدول أعماله المُعلَن، على لقاءيْن مع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ووزير الخارجية والمغتربين ​جبران باسيل​، بالإضافة إلى ثالث مع رئيس لجنة الشؤون الخارجية النائب ​ياسين جابر​، فيما أفادت معلومات بأنّ رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ رفض استقباله.

كادت الزيارة تمرّ مرور الكرام، بهدوءٍ وسلاسة، ومن دون أيّ ضجّة تُذكَر، لولا "الضجّة" التي افتعلها البعض، معتبرين أنّ الزيارة تشكّل خرقاً لسياسة "النأي بالنفس" التي يتبناها لبنان، بل من شأنها أن ترسل رسالة تحدٍ واستفزازٍ، بالغة السلبيّة للمجتمع الدولي، في ظلّ التطورات الجارية في ​فنزويلا​، وعدم اعتراف جزءٍ غير بسيط من العالم بحكومة الرئيس ​نيكولاس مادورو​...

إضغط للمزيد
استفزاز وتحدٍ...
وكأنّه لا يكفي لبنان ما لديه من أزمات ومشاكل، حتى جاءت زيارة وزير الخارجية الفنزويلي لتفاقم انقسامه على نفسه، بل ليظهر مجدّداً بجناحيْن أمام العالم، خصوصاً مع رفض رئيس الحكومة استقبال المسؤول الفنزويلي، بخلاف رئيس الجمهورية، ما أظهر لبنان الرسميّ من جديد في موقفٍ لا يُحسَد عليه، وغير قادر على اتخاذ موقفٍ موحّدٍ، ولو لرفع العتب.

ومع أنّه كان لافتاً حرص رئاسة الجمهورية على عدم تضمين خبر لقاء ارياسا أيّ موقفٍ رئاسيّ، لا من القضية الفنزويلية الساخنة ولا غيرها، إلا أنّ كثيرين "انتفضوا" على مبدأ الاستقبال بحدّ ذاته، معتبرين أنّه كان الأجدى بعون أن يحذو حذو رئيس الحكومة بعدم إعطاء موعد للرجل الذي تعاني حكومته من "عزلة دوليّة"، مع سحب الكثير من الدول الأوروبيّة، فضلاً عن الولايات المتحدة، اعترافها بشرعيّتها.

انطلاقاً من ذلك، فسّر البعض استقبال عون لارياسا وكأنّه "تحدٍّ واستفزاز" لهذه الدول التي تربطها علاقات صداقة مع لبنان، بل التي يحتاج إليها لبنان في ظلّ الأزمات المستفحلة التي يشكو منها، وفي ضوء الاستحقاقات التي تنتظره، خصوصاً مع دخول قروض مؤتمر "سيدر" الذي عقد العام الماضي في العاصمة الفرنسية، مرحلة "مفصليّة"، بانتظار ورشة "الإصلاحات" التي لا تزال ​الحكومة اللبنانية​ تتلكأ في المضيّ فيها لاعتباراتٍ وحساباتٍ شتّى، على رغم أنّ عدم الشروع بها قد يؤدّي إلى سقوط كلّ الوعود الأوروبيّة بمساعدة لبنان على النهوض باقتصاده.

وإذا كان البعض ربط هذا التفسير بالخشية من ردّة فعل أوروبية في غير صالح لبنان واقتصاده شبه المُنهار، فإنّ البعض الآخر قرأ في زيارة ارياسا رسالة أكثر "سلبيّة"، خصوصاً بالنظر إلى السياق الذي جاءت فيه، في ضوء ما يُحكى عن "امتعاض" أميركي شديد من لبنان، تعزّز خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي ​مايك بومبيو​ الأخيرة إلى لبنان، وما لمسه من رفضٍ لدى المسؤولين اللبنانيين لمساندة واشنطن في حربها ضدّ ​إيران​ و"​حزب الله​"، وتجلى أكثر خلال زيارة عون إلى العاصمة الروسية موسكو، وما تسرّب عن محادثاته مع الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​.

لا خرق...
وقد يكون أخطر ما قيل عن زيارة وزير الخارجية الفنزويلي تمثّل في ذهاب البعض إلى حدّ اعتبار أنّها تقود إلى استنتاج قديم جديد، وهو أنّ لبنان الرسميّ تخلى عن سياسة "النأي بالنفس"، بل بات بفعل سياسات عون وباسيل، جزءاً واضحاً من محورٍ إقليميّ معروف في مواجهة آخر، وهو ما تجلى في الفترة الأخيرة من خلال تصريحات الرجليْن، واللذيْن لا يتردّدان في إعلان "رغبتهما" بتطبيع العلاقات مع النظام السوري، بل بزيارة الرئيس السوري ​بشار الأسد​، إن سنحت الفرصة لذلك.

إلا أنّ مثل هذا الاستنتاج يفتقد إلى الحدّ الأدنى من المنطق، برأي قسمٍ آخر من اللبنانيين، ممّن يسألون عن "كيفية" خرق لبنان لمبدأ النأي بالنفس خلال زيارة ارياسا، في وقتٍ تجنّب عون وباسيل أصلاً إصدار أيّ موقفٍ خلال لقائه ليس من الأزمة الفنزويلية فحسب، بل من أيّ قضيّةٍ أخرى، مرتبطة أو غير مرتبطة بها، بل اكتفى مكتبهما الإعلامي بالقول إنّ اللقاء تناول العلاقات الثنائية وأوضاع الجالية اللبنانية المقيمة في كاراكاس، إلا إذا كان البعض، يريد أن يحاكم الرجليْن، وهو ما حصل، على مواقف رئيس الدبلوماسية الفنزويلية الذي أبدى "إعجابه" بالنظام السوري.

من هنا، يؤكد المقرّبون من عون وباسيل أنّ أيّ خرقٍ لسياسة "النأي بالنفس" لم يحصل خلال اللقاء، تماماً كما يرفضون أيّ "مبالغاتٍ" في قراءة الموقف، لجهة أنّه "تحدٍ" للمجتمع الدولي، علماً أنّ لبنان أصلاً ليس من الدول صاحبة القرار في أزمة بحجم الأزمة الفنزويلية، ولكنّهم يلفتون إلى أنّ لبنان في المقابل، يرتبط بعلاقات دبلوماسية مع الجمهورية البوليفارية الفنزويلية، وهناك لبنانيون مقيمون هناك، وبالتالي فإنّ استقبال أيّ مسؤولٍ يمثّل الحكومة الفنزويلية، بمُعزَلٍ عمّا إذا كانت شرعية أو بحكم الأمر الواقع، لا يفترض أن يُعطى أكثر من حجمه.

وبعيداً عن فرضيّات "الإحراج" و"التحدّي" وما شابههما، يبقى الأهمّ من وجهة نظر أصحاب هذا الرأي، يتمثّل بما يكرّره رئيس الجمهورية ووزير الخارجية باستمرار، عن ضرورة تحييد لبنان عن كلّ أزمات المنطقة والإقليم، وعدم تحميله أكثر ممّا يحتمل، وبالتالي تغليب المصلحة اللبنانيّة على ما عداها، ومن هذا المنطق، فإنّ "تحدّي" أيّ كان لا يتمّ إلا تحت هذه العناوين، تماماً كما يحصل مثلاً في قضية النزوح السوري، التي يصرّ "العهد" على ضرورة إنهائها عاجلاً أم آجلاً، ومهما كانت الأثمان.

أين الغرابة؟!
قد يكون من الغرابة بمكان، في أيّ بلدٍ من البلدان، أن تثير زيارة مسؤول في دولةٍ ترتبط بعلاقات دبلوماسية مع هذا البلد، كلّ "الطنّة والرنّة" التي أثارتها زيارة وزير الخارجية الفنزويلي، بمُعزَلٍ عن أيّ أزمةٍ داخليّة تخصّ هذا البلد بحدّ ذاته.

ولكن، ولأنّ ما هو غريبٌ عموماً، ليس بغريبٍ في لبنان، بدت الضجة حول زيارة إرياسا عاديّة، وإن اعتبر البعض أنّه لولا هذه "الضجّة" لما شعر أحد بمرور المسؤول الدبلوماسي الفنزويلي من لبنان، الذي يستقبل باستمرار الكثير من المسؤولين الأجانب.

وبمُعزَلٍ عمّا إذا كان لبنان "أحرِج" باستقبال الرجل، أم أنّه فعل ذلك عن سابق تصوّر وتصميم، فقد يكون من الأجدى للبنانيين البحث في أزماتهم الفعلية والمصيرية، والتي يفترض أن تعنيهم أكثر بكثير من أزمةٍ لن يغيّر موقف لبنان منها شيئاً في المعادلة أصلاً!