الحدود البحرية مجدداً... لا تعالجوا الخطأ بالخطأ


العميد الركن المتقاعد أنطون مراد

بدأت المسألة البحرية في شهر تشرين الأول من العام 2006 حين بدأ التفاوض بين لبنان وقبرص حول حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة بين البلدين وإقتصر الوفد اللبناني حينها على مدير عام النقل البري والبحري في وزارة الأشغال العامة والنقل وبرفقته موظف من نفس الوزارة. هنا بدأ الخطأ بعدم إشراك الوزارات الأخرى المعنية وعدم وجود مؤسسة لبنانية رسمية معنية بموضوع الحدود البحرية وتتالت بعدها الأخطاء على الشكل التالي:

الخطأ الأول: بتاريخ 17 كانون الثاني 2007 وقّع الوفد اللبناني المذكور إتفاقية مع قبرص حول ترسيم المنطقة الإقتصادية الخالصة بين البلدين فتم إعتماد خط فاصل يبدأ بالنقطة رقم (1) جنوباً وينتهي بالنقطة رقم (6) شمالاً. تم التراجع بالنقطة رقم (1) حوالي 17 كيلومتر شمالاً بحجة أن النقطة الحدودية الثلاثية تناقش لاحقاً مع الدولة المعنية. إستغل العدو الإسرائيلي هذا الخطأ فسارع إلى توقيع إتفاقية مماثلة مع قبرص بتاريخ 17/12/2010 وحدّد الخط الفاصل بين البلدين إعتبارأ من النقطة رقم (1) فقضم بذلك مساحة 860 كيلومتر مربع من المياه اللبنانية وفرضها كمنطقة متننازع عليها دون أي مسوغ قانوني.

الخطأ الثاني: عدم معالجة المذكرة التي وجهتها الحكومة القبرصية إلى الحكومة اللبنانية بتاريخ 19/10/2010 والتي إعتبرتها قبرص بمثابة تبليغ للبنان حول نيتها توقيع إتفاقية مع دولة ثالثة إستناداً للمادة الثالثة من الإتفاقية مع لبنان، مع أنها تضمّنت الكثير من المغالطات والأفخاخ.

الخطأ الثالث: تأخر لبنان حوالي سبعة أشهر للإعتراض على الإتفاقية بين قبرص وإسرائيل فرفع وزير الخارجية والمغتربين كتاب إعتراض بتاريخ 20 حزيرن من العام 2011 ثم رفع كتاباً آخر بتاريخ 3 أيلول 2011 طلب فيه من الأمم المتّحدة ترسيم خط يتناسب مع الحدود البحرية اللبنانية على غرار الخط الأزرق البري.

الخطأ الرابع: بتاريخ 18/8/2011، أقرّ مجلس النواب اللبناني القانون رقم 163 حول تحديد المناطق البحرية للجمهورية اللبنانية وإعتمد النقطة (23) بدلاً من النقطة (1). جاء هذا القانون رغم وجود عدة آراء من قضاة وديبلوماسيين وضباط ودكاترة لبنانيين كانوا يقولون بأن للبنان الحق بمساحات كبيرة جنوب النقطة (23). إستفاد العدو الإسرائيلي من هذا القانون ففرض منطقة النزاع بين النقطتين (1) و(23) وبدأت عمليات التفاوض عبر وسطاء منهم قبرص التي هي أساس المشكلة. لكن الوساطة الأكثر جدية كانت عبر الولايات المتحدة الأميركية.

بدأت الوساطة الأميركية خلال العام 2013، حيث اقترح السيد فريدريك هوف خطّاً قسم المنطقة المتنازع عليها فأعطى لبنان حوالي 500 كيلومتر مربع وترك لإسرائيل حوالي 360 كيلومتر مربع فلم يقبل لبنان بهذا المقترح لأسباب مختلفة. ظهرت الوساطة الأميركية مجدّداً إلى العلن مع زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى لبنان في شهر آذار من هذا العام وأخيراً تناقلت وسائل الأعلام خبراً مفاده أن فخامة رئيس الجمهورية سلم السفيرة الأميركية في لبنان مطلع شهر أيار أفكاراً لآلية عمل ترسيم الحدود البحرية في لبنان وأن دولة رئيس مجلس النواب أيّد موقف فخامة الرئيس وبقي موقف دولة رئيس الحكومة الذي من المتوقع أن يكون أيضاً مؤيداً.
اليوم وصل إلى بيروت مُساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى دايفيد ساترفيلد ومن المتوقع أن يعمل على استكمال البحث في مسألة الترسيم والآلية المفترض اتباعها بوساطة أميركية حول الحدود البحرية.
إن لبنان اليوم أمام أحد الخيارين التاليين:

1- القبول بالعرض الأميركي وبالتالي خسارة مساحة من مياهه بغض النظر عن كبر أو صغر هذه المساحة.

2- التمسّك بالنقطة (23) التي هي أساساً لا تعطيه كامل حقوقه وبالتالي سيظهر أمام الوسيط الأميركي والمجتمع الدولي أنه غير مرن مقابل المرونة التي يتظاهر العدو الإسرائيلي بابدائها كون التفاوض يتم على حساب الحقوق اللبنانية، الأمر الذي قد يدفع الولايات المتحدة الأميركية لسحب وساطتها فلا يبقى للبنان وسيط آخر.
إن المشكلة البحرية نشأت بسبب غياب العمل المؤسساتي وبسبب عدم وجود مؤسسة لبنانية رسمية مسؤولة بشكل مباشر عن الحدود البحرية. نشأت المشكلة بسبب خطأ أشخاص لم يتم تداركه من قبل السلطات اللبنانية فتفاقمت المشكلة وما زال لبنان حتى الآن يدفع الثمن.

إن موضوع الحدود البحرية هو موضوع قانوني، تاريخي، ديبلوماسي، سياسي وتقني. لذا، من الضروري تشكيل هيئة وطنية تضم هذه الإختصاصات لدراسة الحقوق اللبنانية وفق القوانين الدولية وبالإستناد إلى تجارب العديد من الدول لنقل التفاوض إلى حيث يجب أن يكون.

إن تجاهل دور المؤسسات هو خطأ فادح يدفع ثمنه الوطن، فرجاءً لا تعالجوا الخطأ بالخطأ