نار تحت الرماد في «الحدت

بعضُ الصُراخ الدّائر عبرَ مواقع التواصل الإجتماعي ضد قرار بلديّة الحدت، منع بيع أو تأجير المسلمين، لا يُقدّم ولا يؤخّر في إدخال أي تعديل عليه، مادامت البلديّة تتسلّح بجملة مواقف: دعم القصر الجمهوري وموافقة المرجعيّات الشيعيّة ولو بالإكراه. جُلّ ما يُمكن إحداثه من قُبيل الضجيج المتصاعد، زيادة نسب الشحن الطائفي، والخشية المتعاظمة الآن، تكمنُ في ما يترتب عن بلوغ «الخطوط الحمر» من إحتمالات تؤسّس لحصول إنفجار تحت رزم الضغط!

هناك مَن يطرحُ مقاربة الآن على بساطِ البحث، يرمي من خلالها إلى توزيع المسؤوليّات على الجميع وإحاطتهم علماً بما يترتّب عن إستمرار الخوض في الإستفزاز والتشنّج: ماذا لو دخلَ مناصر من أصحاب الرؤوس الحامية إلى نطاقِ بلديّة الحدت ورفع رايةً مستفزة على أحد الأعمدة، وشاهدهُ أحد السُكّان المعبّئين و عالجهُ بإعتداء.. ماذا سيحصل؟ المشهد مهول بالنسبة إلى هؤلاء، يبدأ بقضيّة سخيفة وينتهي بشيء أكبر من «مسيرة درّاجات نارية».

في أي حال من الأحوال، لا يُمكن تبرير قرار بلديّة الحدت إطلاقاً. أصلاً البلديّة لم تترك المجال للتبرير ما دامت تُجاهر بالقرار علناً وتدّعي أنّها «صاحبة الحق في تقرير المصير»، وتعتبر نفسها «فوق أي إعتبارات». كميّة «تكبير الرأس» لدى البلديّة ليست نابعة من لا شيء، مردّه إلى الدّعمِ السّياسي الذي تتلقّاه وتقاتل بسيفه، رغم أن قرارها مُخل بآداب الدستور ولا يصلح للإعتماد بأي حال.

على الطرفِ الآخر لا يُمكن تبرير الأخطاء المتراكمة من قبل بعض الجهات التي استلّت سيف «الغزو» عبر الفضاء الإفتراضي، وشاءت أن تحوّل الصفحات إلى متاريس مستخدمةً السُباب والشّتائم ومحاولات ترويض المعترضين عبر الإستعانة بخدمات التّحريض، خاصّة حين يتولّى دفّة الهجوم أشخاص لا ثقافة سياسيّة أو إجتماعيّة لديهم، وبدل أن نلجأ إلى مخاطبةِ البلديّة من فوق، نذهبُ بإتجاه الحديث معها من تحت!

بإختصار، الطرفان اللّذان يتعاملان مع «أزمة الحدت» لا يأخذان في الحسبان، إحتمال انفلاش الأمور في الميدان، وتحوّلها من التراشق الإلكتروني إلى تراشقِ الشوارع، ومن الواضح أنّهما وبعد سريان مفعول الإشتباك منذ إسبوع تقريباً، لا يأخذان على محملِ الجد إنفلاش المسألة إلى مصاف الفتنة الطائفيّة!

وزيرة الدّاخلية ريّا الحسن أدركت باركاً الإحتمالات الكبرى المترتّبة عن «حادثة الحدت»، ووجدت أنّ معالجة الدّاء يبدأ من الكي! فكان الإيعاز إلى محافظ جبل لبنان مساءلة البلديّة عن قرارها، لكن حراك الوزيرة اُجهِضَ في مهده. المعلومات تتحدّث عن إتصال ورد إلى الصنائعِ من مرجعيّة رئيسيّة، يطلب فيه عدم «تكبير الموضوع»، فصرف النظر عن القصّة!

التخلّي الرسمي عن المعالجة، أتاحَ انفلات الأمور من عقلها عبر المنصّات الإفتراضيّة، وما عزّزها نبات الأحقاد السّياسية بين فريقين يتصارعان مُنذ مدّة حول ألف سبب وسبب، ويحتجّان في كل مرّة إلى أسباب تُفيد في تسعير النيران بينهما، وهو ما يقود إلى نمو إعتقاد بأن تكرار فتح هذا الملف تحديداً، عمل مقصود ويندرج ضمن خانة «النكد السّياسي».

المشكلة أنّ البلديّة لا تُساهم في معالجة الأمور، بدليل «تبجّحها العلني»، والتغني بالقرار المخالف للقانون وكأنّه امتياز سياسي حازت عليه بعد نضال طويل ولا قدرةَ لها على التخلي عنه، لا بل تذهب إلى حدودٍ أبعد حينَ تُلمّح إلى نبات «شرخ طائفي» على ضفّة التّراشق الإلكتروني، وبدل أن تسعى اتجاه وأد الفتنة في مهدها، تنفخ في الموئدة!

ما يزيدُ الطّين بلّة ويقف عائقاً أمام إدخال تعديل على بنود القرار، انّ البلديّة تتسلّح برزمة اعترافات تقول إنّها حصلت عليها في مجال «تحريرها» من بيع عقاراتها للغير، من خلال توافق جرى عقد قرانهِ بين العماد ميشال عون زمن قيادته للتيّار الوطني الحرّ، وأمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله، بعلمٍ من رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي قبل ٩ أعوام!

ووفق مضبطة البلديّة، أنّ الإتفاق يقضي بوقف المد السكني الشيعي عند حدود غرب طريق الشّام، وهذا يعني أنّ حدود التملّك الشيعي تنتهي عند مستشفى «السان تريز» مثلاً! هذا الكلام لا تُوافق عليه مصادر الفريق المعترض، التي تنفي علم الرّئيس برّي بهذا الإتفاق. وعند سؤالها عن سرّ عدم نفيه رغم تكراره مراراً على لسان رئيس البلديّة، ترّد بعبارة «منعاً للفتنة»!

في المقابل تناقلَ ناشطون ليلَ أمس الأوّل نفيّاً للمعلومات حول موافقة برّي على قرار البلدية، لكن هذا النفي لا يرتقي إلى مستوى التّأكيد لكونه لم يصدر عن جهة رسميّة، بل أتى على شكلِ تغريدات إلكترونيّة غير معروفة المصدر وبالتالي لا يعوّل عليه.

لا يخفي مراقبون، أنّ تصاعد الغليان في الحدت تعاظم، خاصة بعد الإعتصام الذي دعيَ إليه مؤخّراً. ومن الملاحظ أنّ العصب مشدود، لدرجة انّ حصول أي إحتكاك «فردي وغير مباشر» قد يجرّ المنطقة إلى ما لا تُحمد عقباه.

المستغرب، أنّ أوساط في الحدت ذهبت إلى أقصى حدود المُغالاة في ظل استقدام نماذج من عام ١٩٧٥، كإستعانة تُسقط لتشبيه الوضع القائم اليوم، بحالة «التهجير» التي سادت خلال فترة الحرب، علماً انّ لا مجال للمقارنة بين المشهدين، وهو ما يقود إلى نمو منطق التفكير بـ«حماية الذات» والذّهاب نحو السلاح «إن احتاجَ الأمر»، وتبريرهم الدائم هو الخطر وأحد أشكاله موجودة عبر مواقع التواصل.

أكثرُ من ذلك، يقول أرباب هذا الخطاب أنّ المسيحيون هجروا قرى الضاحية إبّان الحرب بسبب عمليّات الفرز التي حصلت حينها، ثم وبعد وضع القتال أوزاره، وجدوا أن لا إمكانيّة للعودة فقرروا بيع عقاراتهم إلى «الأخوة الشّيعة»، ما أدخل تغيراً ديمغرافيّاً كاملاً على المنطقة. ولاحقاً تأمّنت المصالحة بعد إبرام وثيقة «مار مخايل»، لكن «السّكان الأصليين» لم يعودوا، بل اقتصر حضورهم على الكنائس!

من هُنا، جاء الإتفاق مع «الثّنائي الشّيعي» كي يحفظ الحد الأدنى من الوجود المسيحي في الضاحية، وكان الأصل في ترك الهويّة المسيحيّة تنمو في الحدت بعيداً عن أي تداخل عمراني أو سُكّاني، بإقرارٍ ولو بالإكراه من أركان «الثنائي» الذين أبدوا تفهّماً رغم تجاوز ذلك للقوانين.

 

 

 

 

 

 

 

 

عبدالله قمح – ليبانون ديبايت