إلى زهراء قبيسي.. شكرًا

تنضح المجتمعات بما فيها، وكذلك الأفراد. وحين نتحدّث عن “المجتمع اللبناني” ليس خفيًّا أن نتحدّث عن “مجتمعات” تتناقض على صعيد المنظومات القِيمية. من هنا، يمكن التحدّث عن انقسامات عمودية فيما يتعلّق بالقِيم، فالفروقات بين المجتمعات هنا لا تتعلّق بالطبقات الاجتماعية ولا بالمستوى التعليمي أو الثقافي.

تنتمي زهراء قبيسي إلى بيئة تحمل في منظومتها القيمية مفاهيم سامية كالصبر، وأمثولات عالية تربط الصّبر بالنّصر وتحتّم على حاملها أن يكون مقاومًا، سواء كان البلاء قذائف وحروباً، أو أزمات اقتصادية واجتماعية، أو فقداً أو حرماناً أو غربة..



هذه البيئة هي مجتمع متكامل المواصفات في تشكيلة المجتمعات اللبنانية، والتي تختلف قِيميًا  فيما بينها حدّ إمكان الحديث عن واقع وجود “مجتمع” خالٍ من أيّ قِيم، وبيئة “متحرّرة” من أيّ منظومة أخلاقية..

على قناة المنار، أطلّت صبيّة تعتبر نفسها “ابنة التراب والصنوبر”، بعباءة سوداء ووجه خالٍ من الزّينة، بلغة مهذّبة وبسيطة، وبمضمون يوحي بثقافة عالية ومتانة قِيمية. تحدّثت عن تجربة فردية في تحويل الأزمة إلى فرصة، والفرصة إلى إنجاز، والإنجاز من “فردي” إلى “حجر” يسهم في بناء مجتمع. الاختلاف حول قدرتها على التفاؤل في ظروف شديدة التعقيد كالتي نعيشها مشروع ومفهوم إلى حدّ ما. فاليأس الذي يسوّق له الإعلام وصولًا إلى استخدام “المنتحرين” كمنصة تسويق للهزيمة النفسية اصطدم بحقيقة وجود “معنويات عالية” لدى فئة عبّرت عنها زهراء قبيسي بأجمل ما يكون التعبير، وأنقى.

ساعات قليلة، وتحوّلت طاقة التفاؤل التي أبدتها زهراء إلى محلّ سخط وغضب وسخرية عدد من المصابين باليأس، أو المروّجين له. إلّا أنّه لا يمكن إغفال حقيقة خلفية الهجوم والتي لا تتعلّق بالمضمون الذي تحدثت عنه زهراء بقدر ما يتعلّق بمظهرها، ومظهرها يعني زيّها ولغتها.

بين فوقية الحاقدين على هذه البيئة، ودونية من خرجوا منها، أمكننا جميعًا أن نرى مثالًا نقيًّا، بل شديد النّقاء، عن صبيّة تسلّحت بالقيم وبالعقل المنفتح وبالتجربة.. وفي المقابل، أمكن أن نطّلع عن كثب على نماذج مختلفة ممّن هاجموها.

النموذج الأوّل هو ذاك المعبأ بالموقف المسبق تجاه عباءتها، وهذا يدرك قبل سواه أنّه فاقد للقِيم حتّى تلك التي ينظّر فيها ومنها احترام حريّة الأخر في مظهره ولباسه.

النموذج الثاني هو الذي يسوّق لكذبة أن بنات هذه البيئة معرّضات لشتّى أنواع الظلم المجتمعي فوجد أن زهراء نزعت الأقنعة عن كذبته وجعلته أضحوكة بعد أن حقّقت نجاحًا يعجز عنه عقله المهزوم بدون أن تتخلّى عن قِيمها التي يدّعي أنّها تشكّل عائقًا أمام النجاح.

النموذج الثالث هو ذاك المقتنع أصلًا أن هذه البيئة أرض للجهل وللتخلّف.. وهذا النموذج هو ضحية تربية فاسدة عنصرية ودعاية استخفّت بعقله حدّ منعه من تصديق ما تراه عيناه.

النّموذج الرابع، وهو المهزوم الذي يحاول أن يجد مبررات لهزيمته فدحضتها زهراء عبر حديث وتجربة أظهرت أن الهزيمة ليست خيارًا ما دام المرء متمسّكًا بقيمِه وبعقل لا يرتضي التعليب.

النموذج الخامس هو الذي التحق بأحد النماذج السابقة الذكر على سبيل المشاركة بالترند، فقط، دون اجهاد عقله أو قلبه بالتفكّر في بشاعة ما يصدر عنه.

وبعد، اجتهد الإعلام كأداة وظّفها الأميركي في التسويق لمفاهيم وأفكار مدمّرة. سعى على مرّ سنوات إلى تصوير بيئة المقاومة كبيئة معتمة، جاهلة وفاشلة كي يتمكن من محاصرة تجربة المقاومة والنصر، وكثّف جهوده في الفترة الأخيرة لترويج مفاهيم اليأس والإحباط حدّ دعوة الناس إلى إحراق نفسها! 

بالمقابل، هذه البيئة المقاوِمة تحصّنت بالصبر، بالبصيرة، بالبحث عن سبل تحويل الوجع إلى طاقة، والأزمات إلى تحدّيات، والظلم إلى بسمة، بل إلى ضحكة تشبه ضحكة الفِطرة الأبيّة التي رأيناها على وجه زهراء قبيسي وانسكبت في قلوبنا حبًا واحترامًا وسكينة.

إلى زهراء قبيسي، الشكر من القلب على جميل الطاقة الإيجابية، على تهذيبك الذي لن يفهمه من ظنّوا البذاءة حرية، على تجربتك الموحية، على تمسّككِ بالمظهر الذي يعكس قِيَمكِ وطهر روحك.. شكرًا بحجم الحبّ الذي أظهرته، والبراءة التي تزيّن ملامحكِ، والنجاح الذي بدأتِ بتحقيقه وأردتِه حجرًا جميلًا متماسكًا في بنيان بيئة يحاربها العالم، فتصبر وتنتصر.

موقع الضاحية