هل ثمة استعداد للعام الدراسي 2020 – 2021؟

ما من أحد منّا ينكر المشكلات التي تعترض سبيلنا كتربويين وأكاديميين، إن في القطاع الخاصّ أو في القطاع العام.

فما واجهناه ونواجهه من أزمات اقتصاديَّة، وما تلاه من حجر منزلي وتباعد اجتماعي بسبب فيروس كوفيد – 19، وضعنا في مكان شعرنا فيه أنّ العدو وراءنا والبحر أمامنا.

لكن اللبنانيين لم يعتادوا يومًا الوقوف مكتوفين أمام الأزمات والضيقات، بل كدّوا دومًا لإيجاد البدائل لكي يحوِّلوا أزماتهم إلى ابتكارات واختراعات وأفكار جديدة وفرص واعدة.

انتهى العام الدراسي لهذه السنة بما انتهى عليه، لتبدأ السجالات والمشاحنات لتسجيل مواقف معيّنة في محاولةٍ لإلقاء اللوم والمسؤولية على هذا أو ذاك من المسؤولين. أياً تكن الأمور أو الأسباب، فإنَّ البكاء على الأطلال ما عمَّر يومًا بيتًا، ولا أنشأ مدرسة، ولا بنى مستقبل شعب.



نقول وداعًا للنموذج القديم المتمثِّل في الحضور الصفّي والفعلي في حرم المدرسة. ونقول وداعًا للحافلات المدرسيّة المكتظَّة بالتلامذة، وزحمة الملاعب والاصطفاف الصباحي. سنودّع مع هذا النموذج الجديد صفوفًا مليئة بالمتعلّمين، لنعتاد صفوفاً من عشرة أو خمسة عشر متعلّمًا تؤمِّن مسافةً آمنةً لهم وتضمن حمايتهم. كما سنقول وداعًا لدكّان المدرسة أو حتى الأكل في المدرسة. فلن تكون الأمور كما ألفناها وتعوَّدناها في ما بعد.

فحبَّذا لو نمضي قُدمًا، نخطِّط للعام الدراسيّ المقبل، ونضع الجدال جانبًا، إذ هو الآن في هذا الوقت الحرج والدقيق مضيعة للوقت. فالغد لن يرحمنا وأبناؤنا لن يسامحونا على عدم التخطيط لعام جديد، إن أضاعوه من عمرهم، أضعناهم. فالحياة كما يقول جبران خليل جبران: “لا تعود القهقرى ولا تتمهَّل عند الأمس”.

وهنا لا بدَّ من التنويه بالدور الذي قام به المعلِّمون والمعلِّمات مشكورين، إذ أرغمتهم المستجدّات على القفز بالتعليم والمناهج قفزة كبيرة لم يتوقَّعوها في هذا التوقيت وبهذه السرعة. لكنهم مع ذلك نجحوا إلى حدٍّ بعيد في مواكبة مشوار التغيير بأفضل ما يمكن من وسائل مُتاحة. نحن فخورون بأساتذتنا الذين لم يبخلوا جهدًا في متابعة تلامذتهم عن بُعد أو عن قرب عندما دعت الحاجة.

ففصل الصيف المقبل على معلِّمينا ومعلِّماتنا لن يكون فصل راحة واستجمام، بل سيكون ورشة عمل مضاعفة، تحضيرًا للعام المقبل مع ما يتطلّبه ذلك من تفكيرٍ بذهنيَّة جديدة ومتفاعلة ومبتكرة للبدائل.

هذا كلّه من دون أن ننسى دور الأهل الذين هم أيضًا لم يكونوا مهيّئين لما دهم حياتهم وباغتها من مسؤوليات مستجدَّة، وتبعات مفاجئة، والتزامات ضاغطة، وأعباء على كلّ الصعد الاجتماعيَّة، والعائليَّة، والاقتصاديَّة، والماليَّة وغيرها…

هذا يقودنا إلى حلِّ واحد وحيد، ألا وهو التفهُّم والتعاون بعضنا مع بعض لكي نصل جميعًا بسفينة التّعليم إلى ميناء الأمان والفلاح… لأنّنا جميعًا معنيّون، إذ الفشل لن يرحم أيًّا منا.

نتقدِّم بورقة العمل هذه، بغرض اقتراح نقاط مختلفة ومتعدِّدة من شأنها مساعدة القطاع التربوي في لبنان للتأقلم والتحضير للعام الدراسيّ المقبل في مواجهةٍ لتحدِّياته على مختلف الصعد. وبغية ضمان النَّجاح في هذه المهمة، علينا أولاً تغيير الذهنيِّة والانفتاح بروح إيجابيِّة على الأفكار المقترحة التي من شأنها تذليل معظم العقبات وإيجاد أفضل الحلول بشكل تضامنيٍّ، وتكافليٍّ وبنيويّ.

تفعيل منظومة التعلّم المرن

إنَّ الأزمة التي أحدثها فيروس كورونا المستجد كانت مفاجئة وغير متوقَّعة، وإنّ جاهزيَّة الدول وما تمتلكه من بنية تحتيَّة، أظهرت الفرق في الاستجابة والتفاوت في حجم التأثُّر، حيث إنَّ بعض الدول توقَّف عن التعليم بشكل نهائيٍّ، بينما اتّخذ بعض الدول التدابير اللازمة لاستكمال الدراسة باعتماد دول أوروبيّة، مثل الدانمارك، الدَّمج بين الحضور الصَّفي والتدريس عن بُعد Hybrid Educational System، متّبعة بذلك “نظام التَّعليم الهجين”.

ولا بدَّ هنا من التأكيد أنَّ الوقائع تشير إلى أنّه بعد كوفيد – 19 انقسمت الدول ثلاث فئات. الأولى، ستعود إلى ممارسات العمل الاعتيادية وأساليبها، فيما ستغيِّر الثانية طبيعة عملها بشكل بسيط وخجول، قبل أن تعود إلى ما كانت عليه. أما القسم الثالث من الدول، فهو يحاول الاستفادة من هذه الأزمة مستمرًّا في عمليّات التطوير للعبور إلى المستقبل. لكن السؤال الملحّ والمطروح الآن: أين لبنان من خريطة التّعليم العالميّة؟ نرجو أن نكون من الفئة الثالثة ونُطوِّر أساليب تعليم جديدة.



وممّا لا شكَّ فيه أنَّ هذه الأزمة سرّعت الانتقال إلى نموذج التَّعلُّم عن بُعد في لبنان، حيث إنّها دفعت وزارة التربية والتعليم العالي مشكورةً والقطاع الخاصّ واتّحاد المؤسسات التربويّة الخاصّة إلى اعتماد خطَّة طوارئ تربويّة أرغمت كلاًّ من القيادات التربويَّة (مديري المدارس)، والهيئات التعليميّة (الأساتذة)، والمتعلِّمين، وأولياء الأمور على التكيّف السريع لإنقاذ الوضع القائم. لكن الأزمة استبقت ما كان يلزم اتّباعه منذ أمد لوضع الخطط والبرامج التي كان من المتوقّع إدخالها إلى ميدان التّعليم خلال السنوات المقبلة.

إنَّ الانعكاسات والتحدّيات التي خلّفها كوفيد – 19 خلقت اتّجاهات تربويَّة عالميَّة للمرحلة المقبلة من حيث تطبيق التَّعليم عن بُعد كجزءٍ أساسيٍّ من عمل المؤسَّسات التعليميَّة لضمان استمرارية التَّعليم بسلاسة في حال حدوث أي مستجدّات، وتعزيز جاهزيَّة المعلِّم، وتكامل دوره مع منظومة تكنولوجيا الاتِّصالات والتعليم عن بُعد، إذ إنّ دور المعلِّم عند انتهاء هذه الأزمة لن يكون إطلاقاً كما كان قبلها. وهذا من دون شكٍّ سيتطلَّب تأهيل الكوادر التعليميّة بما يتناسب مع المرحلة المقبلة.

نموذج جديد للتعلُّم المرن

أوَّلاً: تغيير العقليّة وخلق تحوّل نموذجي Paradigm shift، من خلال وضع خطط توعية، وتوجيه، وإرشاد لكل قطاعات المدرسة للملاءمة مع الواقع الطبيعي المستجد والتأقلم معه،(Awareness campaigns and training workshops plans for all stake holders، اضافة إلى إشراك كل أصحاب المصلحة Stakeholders من مديري مدارس ومعلِّمين ومتعلِّمين وأولياء الأمور ومساعدتهم على فهم الواقع، والعمل وإيّاهم على خلق عقليّة واعية وقادرة على تحقيق النجاح على كل المستويات.

ثانيًا: احترام البُعد الاجتماعي والصَّحة الفرديَّة والسلامة العامَّة عبر وضع خطَّة مسهبة ومفصَّلة بالاشتراك مع وزارة الصحَّة، لتكون هذه النقطة المظلَّة الكبرى التي تقع تحتها كل النقاط الأخرى.

ثالثًا: اعتماد خطَّة التعلُّم المرن(Blended Learning)، وهي استراتيجيَّة مرنة للتعلّم، (Creating a Flexible Blended Learning Strategy) تستوجب اختيار نظام إدارة مناسب للعمليَّة التعلُّمية (Management System Learning)، من شأنه حفظ التوازن بين التعلّم المباشر (وجهًا لوجه) والتعلّم عن بُعد، فيسمح للمتعلِّم بالحصول على المواد التعليميَّة مع حلول للنشاطات المُصاحبة، بحيث يمكِّن المتعلِّم من التواصل مع المعلِّم.



رابعًا: تطوير دور المعلّمين من مدرِّسين إلى مدرّبين، وموجّهين ومرشدين وميسّرين (Trainers,Advisors and Facilitators).

خامسًا: جداول زمنيّة مرنة للحصص الدراسيّة تحفظ الابتعاد المكانيّ أو الجسميّ الاجتماعي،(Creative and flexible schedules that respect social distancing) من أجل تأدية استمراريَّة العمليَّة التربويَّة عبر مسارين متوازيين، وتضمن الحضور الفعلي إلى المدرسة لجزء من المتعلِّمين، مع الإبقاء على التعلُّم عن بُعد للجزء الآخر، وفق ترتيب يضمن تقليل نسب الحضور في الصفوف، ونسبة انتقال العدوى من دون أية خسارة على المستوى الأكاديمي.

سادسًا: مناهج تفاعليّة ملائمة للبرامج الأكاديميَّة الحاليّة مع التعلّم عن بُعد، عبر التنسيق مع وزارة التربية والتّعليم العالي، ومع مركز البحوث والإنماء لإعداد مناهج تفاعليّة تُحاكي تطوّرات المرحلة المستقبليَّة، وفي أسرع وقت ممكن.

سابعًا: ترشيد الموازنة للمدارس لملاءمة المرحلة الجديدة من التعلّم المرن ومواكبتها، وذلك لتأمين استخدام آليات الاتِّصال الحديثة من أجهزة إلكترونيَّة مثل الألواح الرقميّة والحواسيب Tablets and Laptops (لكل معلّم ومتعلِّم) وشبكاته ووسائطه المتعدِّدة من صوت وصورة، ورسومات، وآليات بحث، ومكتبات إلكترونية، وبوابات الإنترنت عن بُعد، عبر مجتمعات التعلُّم الافتراضيَّة، بما يضمن سلاسة استخدام التقنيَّة بجميع أنواعها، لإيصال المعلومة الى المتعلِّم بأقصر وقت وأقل جهد وأكبر فائدة.

ثامنًا: تدريب الكوادر التعليميَّة والإداريَّة (Professional Development for all teachers focusing on interactive e-learning teaching skills and methods). لتحقيق مجتمعات تعلِّم افتراضيَّة من شأنها تعزيز قدرات المعلِّم على إدارة العمليِّة التعليميَّة عن بُعد، وملاءمة طرق التّعليم في ما يضمن جودة التّعليم وسلامته.

تاسعًا: التواصل مع مؤسَّسات التّعليم العالي لإدخال مسارات أكاديميَّة، هدفها إعداد الهيئات المشرفة على عمليَّة التعلُّم عن بُعد من أساتذة وإداريين وتقنيين تؤهّلهم للمرحلة المقبلة، اضافة إلى إدخال مسارات إجباريّة تعدُّ الطلاّب الجامعيين الذين يتخصّصون في مجال التربية والتّعليم.

عاشرًا: وضع أسس لتقييم الأداء والمهارات والنتاجات التعلّميَّة Evaluation and Assessments of e-Learning outcomes). والتنسيق مع وزارة التربية والتّعليم العالي والمركز التربوي لتغيير أُسس وطرائق التقييم المُعتمدة في القطاعين الرَّسمي والخاصّ بما يتماشى مع الواقع الجديد، وطرائق التقييم للتعلّم عن بُعد بما يتناسب مع المعايير العالميَّة والتطوّرات التكنولوجيَّة، وأساليب المعايير القياسيّة الموحدة standardized.

حادي عشر: ضوابط مسلكيّة للتعلّم عن بُعد، تضمن أجواء دراسيَّة قائمة على التفاعل بحيث تضبط وتنظّم سلوك المتعلِّم، والمعلِّم والأهل، وتتماشى مع معايير الأمن الإلكتروني Cyber Security /Safety.

ثاني عشر: إرشاد أولياء الأمور وتوجيههم ومساعدتهم لكي يقوموا بدورهم في العمليَّة التعليميَّة عن بُعد على غرار دورهم في التَّعليم الاعتيادي، إذ يتعيَّن على أولياء الأمور توفير بيئة تعليميَّة لأولادهم والتعاون مع المدرسة لإنجاح منظومة التعلُّم عن بُعد، والمتابعة المستمرة معهم من خلال المشاركة الإيجابيَّة والفاعلة.

الخاتمة

وفي خضم هذه التغييرات والمستجدات، لا بدّ من تزكية الروح المرنة التي يتحلّى بها معلِّمونا للتكيُّف، والتأقلم لإنجاح هذه الجهود الكبيرة التي بُذلت وستُبذل من أجل زيادة المرونة في التعلّم، وتقديم المحتوى التّعليمي المناسب والفعَّال، فلسوف يسطع دور المعلّم الجبّار في نهاية المطاف.

كما لا بدَّ من استخدام أساليب خلَّاقة ومتعدِّدة الوسائط لتقديم خدمات التعلّم في بيئة جديدة، ومواكِبة لحاجات عصرنا بعد جائحة الكورونا، وأن يتمّ العمل على بناء شراكة مبتكرة بين المتعلّمين والمعلّمين والأهل… وكل ذلك في سبيل الإبقاء على الرسالة التربوية متّقدة، وتعزيزها، خدمةً للأجيال الجديدة، مستقبل بلدنا الحبيب لبنان.

ولكي تصير هذه الاقتراحات حيّز التنفيذ وفي أسرع وقت، لا بدّ من تضافر الجهود، وزارةً ومركزًا تربويًّا ومؤسَّسات تربويَّة خاصَّة وعامَّة في عمليَّة إنقاذ سريعة للعام الدراسي المقبل، عبر تشكيل لجنة مشتركة من القطاعين العام والخاصّ، تكون مهمّتها:

¶ الإشراف على عمليَّة التغيير والتطوير.

¶ تقديم المظلَّة الداعمة والمساعدة عند الحاجة.

¶ خلق الضوابط الرادعة والضامنة لسلامة هذا النهج.

وعليه، نوجه دعوة إلى وزارة الاتّصالات لتكون شريكًا أساسيًّا في تأمين جودة الإنترنت وسرعتها في كل المناطق، كما تأمين اشتراكات مجانيّة لكلِّ طالب، مع أسعار مدروسة لكلِّ مدرسة تفاديًا لما عانيناه من عقبات في مرحلة خطة الطوارئ السابقة، من دون أن ننسى دور وزارة الإعلام، الذي سيظل دائمًا حجر أساس لخلق ثقافة الوعي على مستوى الفرد والمجتمع والوطن.

وكلّنا أمل أن يبقى لبنان رائدًا في التّعليم وصرحًا منه تنطلق أدمغة اللبنانييّن نحو مستقبل أفضل، وأن تأتي كل هذه الاقتراحات كخطة استباقيّة تدعم التّعليم في حال حدوث أي طارئ. كما أنّنا ننظر إلى ورقة الاقتراحات هذه كمدماك أساسيّ لمستقبل التَّعليم الذي تدهمه المتغيّرات والتطورات والتكنولوجيا الحديثة.

وفي الخلاصة، لدينا في لبنان: مليون تلميذ، مئة ألف أستاذ، تسعون يومًا قبل ابتداء العام الجديد. أنواجه الواقع أم نعيش في النكران؟ أنُفضِّل المناكفات أم نختار التضامن؟ إن أحسنّا فِعْلاً حفظنا أولادنا ومعلِّمينا ومدارسنا، فالقرار اليوم لنا جميعًا.

المصدر : النهار