رسائل إستياء فرنسية: إلى أين تهرب الحكومة اللبنانية؟



أسبوعان فقط باقيان من أيار. المهلة ضاقت كثيراً. وواضح أنّ الحكومة تماطل من يوم إلى آخر هرباً من استحقاق لا بدّ أنّه آتٍ في النهاية... فهل ستتمكن من تدبير طريقةٍ تُرضي فيها المعترضين في الداخل ورعاة مؤتمر «سيدر» والجهات المانحة في الخارج؟ أم إنّ السيناريو الدراماتيكي الذي توقَّعه كثيرون ما زال وارداً؟
هناك صمتٌ فرنسي مطبق إزاء ما تفعله الحكومة سعياً إلى التزام متطلبات «سيدر»، كما حدَّدها بيار دوكان، المولج مهمَّة التنسيق لإنجاح المؤتمر وتحقيق أهدافه.
يقول المتابعون، إنّ هذا الصمت كان يخفي وراءه في المراحل الأولى ترقُّباً وانتظاراً لمدى جدّية الحكومة والقوى السياسية في لبنان في التزام متطلبات الإصلاح. ولكن، سرعان ما استنتج الفرنسيون أنّ ما يهمّ القوى اللبنانية الموجودة في السلطة هو فقط الحصول على أموال «سيدر»، وليس الإصلاح.
فهذه السلطة لم تتخذ أي خطوة جدّية تؤشّر إلى تغيير في سلوكها السابق، الذي أوصل لبنان إلى الكارثة… باستثناء بعض الخطوات الخجولة، التي لا تكفي.
ولذلك، لم يعد الفرنسيون يلتزمون اليوم جانب الترقّب، بعدما أدركوا حقيقة الوضع. ووفق المتابعين، بعثت باريس برسائل عدّة، عبر أقنية مختلفة، إلى المعنيين في لبنان تبدي فيها استياءً شديداً من اللامبالاة ومحاولات التذاكي التي يعتمدونها، والتي باتت مكشوفة.
والأخطر هو أنّ الرسائل الفرنسية لوَّحت بحجب المساعدات عن لبنان ما لم يتخذ خطوات ملموسة، بالوقائع والأرقام، تطمئن إلى خفض العجز والتقشف والاتجاه إلى إصلاح هيكليات الدولة ومؤسساتها وإخضاعها للقوانين وهيئات الرقابة والمحاسبة.
وحتى الآن، لم يظهر من هذه الخطوات أي إشارة ذات أهمية… حتى أنّ خطة الكهرباء باتت موضع طعن بقانونيتها سريعاً. ولذلك، يلجأ بعض القوى النافذة في السلطة إلى رفع الصوت ضد الخطوات التي تمّ إقرارها في مجلس الوزراء حتى اليوم، على تواضعها.
والهدف الأساس من ذلك هو التنصُّل من فشل الإصلاح وتقديم براءة ذمّة إلى باريس والجهات الدولية. وضمن ذلك، مثلاً، يندرج موقف الوزير جبران باسيل الاعتراضي على مسار الموازنة. فلا أحد يضمن الحصول على دعمٍ دولي من أجل تحقيق طموحات سياسية رفيعة إذا احترقت صورته في ملف الإصلاح ومكافحة الفساد.
وسبق أن قام باسيل بخطوة في السياق عينه، عند تأليف الحكومة. فهو أعلن أنّ وزراء «التيار الوطني الحرّ» وقّعوا مسبقاً كتُبَ استقالاتهم من الوزارات التي يتولّونها. فإذا فشلوا فيها ستصبح نافذة. وليس واضحاً إذا كان أوان المراجعة المطلوبة قد آن أم لا، ما دامت الموازنة لم تُنجز بعد.
إذاً، القوى السياسية تعمل على إنجاز الموازنة تحت الضغط. ويعترف أحد الوزراء المعنيين: لو عادت الأمور إلى هذه القوى السياسية، بعيداً من «سيدر» والجهات المانحة، ولولا وصول الأمور إلى مرحلة الانهيار الفعلي، لفضَّلت اعتماد القاعدة الإثني عشرية مجدداً... و«بلا الموازنة ووجع الرأس»!
ولكن، ما كان ممكناً في السنوات السابقة أصبح اليوم مستحيلاً. فالدولة وصلت فعلاً إلى انهيار حتمي، ولم يعد هناك بديلٌ من المساعدات المنتظرة من «سيدر»، ولو كانت بكاملها مجرد قروضٍ ميسَّرة في شكل مشاريع، وليست مِنَحاً مالية.
ويبدي قطب سياسي «مُعترض» تشاؤماً إزاء ما سينتهي إليه ملف الموازنة. فمجلس الوزراء يحاول الاكتفاء بتقديم إثبات إلى الفرنسيين والجهات المانحة لكي يفرجوا عن مساعداتهم. وهذا الإثبات يُتَرجَم بالأرقام في هذه الموازنة. ولذلك، ينصبُّ الاهتمام على تقديم موازنة ينخفض فيها رقم العجز، ولو شكلاً، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
فأركان الطبقة الممسكة بالسلطة لا يريدون إجراء إصلاح حقيقي لأنّ ذلك ليس في مصلحتهم. ومصادر الهدر الحقيقية التي يمكن أن تأتي بمليارات الدولارات واقعةٌ كلها في قبضتهم، وهم يتوزّعون الثروات منها.
ولذلك، هم لا يمسّونها: من الأملاك البحرية إلى منافذ التهريب إلى التهرّب الضريبي وفرض الضرائب تصاعدياً وإصلاح المؤسسات العامة والإدارات هيكلياً وسوى ذلك. وهذه الأبواب، وفق الخبراء، يمكن أن توفِّر أكثر من 10 مليارات من الدولارات سنوياً.
لذلك، يرتدّ هؤلاء إلى موظفي القطاع العام، العسكريين والمدنيين، ويسعون إلى الإقتطاع من الرواتب ومعاشات التقاعد والخدمات. وعلى رغم من أن النتائج المنتظرة من هذه الخطوة لا تكفي لتحقيق المقدار المطلوب من خفض العجز، فإنّها تلقى اعتراضات عنيفة وشاملة.
حتى اليوم، تتضارب مواقف القوى السياسية حول هذه الخطوة في شكل عميق، وهي تؤخّر إقرار الموازنة في مجلس الوزراء. فلا أحد يجرؤ على تحمّل «كرة النار». والأرجح أنّ الأطراف المعنية تُظهِر في العلن مواقف مناقضة للمواقف التي تعلنها داخل الجدران الأربعة.
وأكثر من ذلك، بعض القوى يعمد في مجلس الوزراء إلى إطلاق المواقف الحازمة مع التقشف واقتطاع أجزاء من الرواتب والتقديمات، فيما من تحت الطاولة يدعم الحراك النقابي والشعبي الرافض هذا الاقتطاع، لأنّ أحداً لا يريد خسارة قواعده الشعبية. وهذه السياسة الشعبوية هي التي أوصلت إلى الكارثة الحالية، خصوصاً عند إقرار سلسلة الرتب والرواتب وإدخال الآلاف من الموظفين العاطلين عن العمل إلى الإدارة.
اليوم، هناك تكتّلات نقابية وقطاعية قوية رافضة أي اقتطاع من الرواتب أو الخدمات. والمشكلة أنّها تحظى- سرّاً- بدعم قوى سياسية نافذة. وهذا ما يدفع الرافضين إلى التلويح بالذهاب في رفضهم حتى النهاية، ولو اضطروا إلى شلّ البلد، كمصرف لبنان والجيش والجامعة اللبنانية.
ويرفع المعترضون عنواناً لا يستطيع أحدٌ أن يتنكّر له: لماذا لا يبدأ الإصلاح بالكبار وبأبواب الهدر الحقيقية التي يمكن أن توفّر المليارات بسهولة، بدلاً من «الاستسهال» في اقتطاع رواتب الصغار؟
إذاً، القوى السياسية أمام استحالات وتحدّيات كلها خطرة. فهي لا تريد خسارة مكتسباتها الخاصة من الفساد، ولا تستطيع تدفيع الناس ثمن ذلك هذه المرّة، لأنّهم جدياً بدأوا بـ«التمرُّد»… والأرقام الصغيرة التي يتردّد أنها ستُقتطع من هنا وهناك ليست كافية. وأما الأرقام الكبيرة فلا أحد يجرؤ على تبنّيها لأنّها ستؤدي إلى انفجار في الشارع...

وهكذا، هناك خياران مريران يلوحان في الأفق:

- إذا لم يتم إنجاز موازنة تقشفية وإصلاحية، فإنّ أموال «سيدر» لن تأتي وسيقع الانهيار.

- إذا تمّ التجرؤ على الرواتب والتقديمات في كل مكان، فسيقع الانفجار.

والحكومة اليوم واقعة بين سيناريو الانهيار الاقتصادي الذي يقود إلى انفجار شعبي واجتماعي، وسيناريو الانفجار الشعبي والاجتماعي الذي يقود إلى انهيار اقتصادي.
وفي الحالين، ستكون هناك تداعيات شديدة الخطر سياسياً وربما أمنياً. فإلى أين ستهرب الحكومة؟ وهل تصمد؟ وهل سيتدخّل الفرنسيون لمنع السقوط بأي حال… من أجل عيون لبنان والنازحين العائشين في ربوعه؟