“مصارف لبنان”: جواسيس في خدمة واشنطن

بقلم: عبدالله قمح 

عندما تتسرب من المصرف المركزي نماذج تُحاكي الامتثال الكامل للقرارات الاميركية المسماة عقوبات، على نحوٍ أبعد مما هي عليه، أي يصل بها الأمر إلى حد استخدام نموذجاً يجعلنا ملوكاً أكثر من الملك، أي تحديداً أعتماد أساليب الاخضاع والابتزاز، ساعة إذٍ لا بُدَّ من رفع الصوت أمام إنتهاك حُرمة شريحة واسعة من اللبنانيين تحت ذرائع يجدها هؤلاء تخضع للمصلحة الأميركية حصراً.

قبل أيّام، تفاجأ زبائن عدداً من المصارف المحلية، من العلامات التجارية المعروفة، بالطلب إليهم الحضور بُغية توقيع نموذج جديد عبارة عن رُزمة بنود على شكل شروط للتعاقد بين الجانبين. بحسب مصادر مصرفية، النموذج الجديد مصدره مصرف لبنان، ومرسل من قبله إلى المصارف مذيّلاً بإشعار بضرورة الالتزام به وإخضاعه على جميع الزبائن بمن فيهم الجدد.

النموذج المؤلّف من 25 بنداً والمطلوب توقيعهُ كل ورقة بورقتها، يحوي بنوداً ذات شُبهة عالية، يُمكن في حال توقيعها من قِبل الزبون، (تصبح نافذة بمجرّد التوقيع)، أن تُشكّل أداة تستخدم لتطويعه بما هو أبعد من شؤون مالية متفق على التعاون فيها بين الجانبين. الخطير، انها قد تطال أموراً سياسية قد تؤثّر على السلوك السياسي وموقف الزبون صاحب رأس المال.

يستند التعميم الجديد على مدرجات قانون الامتثال الضريبي الأميركي (FATCA). من لا يعرفه تفاصيله، هو القانون المُصمّم لمنع محاولات التهرب الضريبي من المواطنين الأميركيين ذوي الحسابات الأجنبية والاستثمارات خارج الولايات المتحدة الأميركية، أي كل من يمتلك جنسية أميركية و “ينام” على أصول مالية..

ما أثارَ ريبة الأوساط المصرفية، ومن خلفها السياسية، طريقة تنفيذ مدرجات التعميم، حيث أن المركزي ألزمَ المصارف إخضاع كافة الزبائن، من لديه ومن ليس لديه جنسية أميركية، لتوقيع التعميم بشكلٍ إلزامي تحت طائلة وقف التعامل معه في حالة الرفض، وهو تصرّف أدّى إلى نشوء فكرة تقوم على إعتبار أن هذا التصرّف، يأتي بشكل يُراد من خلاله تعميم فصول القانون الأميركي على سائر اللبنانيين، أي تأمين باباً لتطبيقه عليهم بالمواربة.

تقول المادة 24 من التعميم: “تنفيذاً لقانون الإمتثال الضريبي الأميركي على الحسابات الأجنبية (أعفى ذكر المواطنين الأميركيين) FATCA، يجيز الفريق الثاني (أي الزبون) لـ”المصرف” رفع السرّية المصرفية تجاه السلطات الضريبية الأميركية، وإعطاء هذه الأخيرة المعلومات والمستندات المطلوبة عنه وعن حساباته وعلاقاته وعملياته مع “المصرف”. ولهذه الغاية، يفوّض الفريق الثاني (الزبون) “المصرف” بإعلام السلطات الضريبية الأميركية دورياً عن الحسابات العائدة له لدى “المصرف” ولدى مجموعات المؤسّسات المصرفية والمالية التابعة للمصرف.

يبدو واضحاً إذاً أن توقيع البند يعني إخضاع الزبون إلى رفع صريح وواضح للسرية المصرفية عن حساباته، ما يعني السماح من خلال التفويض (كم هو مبين) للمصرف إعطاء كافة المعلومات والمستندات وعلاقاته وكلّ تفاصيل عملياته إلى السلطات الأميركية. الخطير أكثر، أن هذا البند يُجيز للمصرف بشكل تلقائي، رفع تقارير دورية، من دون العودة إلى رأي الزَبون ومن دون ورود طلباً أميركياً، إلى السلطات المالية في واشنطن!

هذا الفعل تدرجهُ مصادر قانونية في خانة “الاعتداء على حقوق اللبنانيين وحرّيتهم بما فيها حق التزام السرية المصرفية المُصانة من خلال القوانين”، وعلى هذا الأساس يُجيز “الاعتداء” للبنانيين رفع شكاوى قضائية على الجهات التي تقف خلفه، إلى جانب حض “حماية المستهلك” مثلاً على التحرك صوناً للحقوق.

البند 24 تحديداً، تضعهُ مصادر سياسية مقام “الإحتلال الصريح للقطاع المصرفي اللبناني، الذي يعود عنه احتلالٌ ووصاية مفروضة على الشعب اللبناني ويخضع لها مرغماً” وبالنسبة إليها “من غير المقبول الجواز بإعتماد هذا المشروع” مع إعلان تأييدها لسحبه “ولو كلّف الأمر الخروج إلى الشارع في وجهه”.

وعلى نحوٍ أبعد من ذلك، تعود القضية بِنا إلى سياق الإهتمام الأميركي بالقطاع المصرفي اللبناني من خلال إخضاعه بالكامل لارادتها، ولعلّ نماذج “الفرض” التي تُستخدم حيال تحديد هويّات بعض نوّاب حاكم مصرف لبنان وتزكيتهم من خارج القرار السيادي، يعد أوقح مثال على هذا التدخّل وإستطراداً الوظيفة المطلوبة منهم، أي حفظ المصالح الأميركية داخل القطاع المصرفي.

أكثر من ذلك، ثمّة من ينظر إلى هذا البند وغيره من البنود الواردة ضمن المشروع “المشبوه”، على أنها نماذج موظفة للاستخدام في لي ذراع طبقات لبنانية إنسجاماً مع مواقف سياسية تتخذها، أو أغراض سياسية تُريدها السلطة الأميركية من أجل التضييق على أعضاء فيها وإخضاعهم أو ربما إجبارهم على إدخال تعديلات على مواقفهم السياسية، تحت طائلة الإدراج ضمن قوائم العقوبات التي باتت سيفاً مسلطاً على رقاب اللبنانيين.

لكن أكثر ما يثير الذهول، ضلوع اطرافاً محلية “مصرفية” في تقديم خدمات إلى “المُشرّع الأميركي” وإقامات شركات وشاية تحت عنوان تجيير خدمات لصالح رفد مشاريع العقوبات الأميركية بمعلومات موثّقة، تبدو نابعة من داخل المصارف، ما يُحيلنا إلى الظن بوجود كتلة بشرية تعمل بوظيفة “كتبة تقارير” لصالح “الخزانة الأميركية”.

وفيما البحث جارٍ عن حل لـ”كتبة التقارير” هؤلاء، وما دام الأمر كذلك، يصبح السؤال، من يجد حلّاً لودائع “الكتبة” في المصرف، الآتية على شكل اقتراحات وبنود وقوانين تمس جوهر الحريات المصرفية وحقوق الأفراد اللبنانيين. من يجد حلاً لكشف المواطنين بحرية كاملة لمصلحة سلطة أجنبية أصبح بحكم الوصية على لبنان؟

المصدر:

ليبانون ديبايت