الأمام النير الخلوق والمغيب المظلوم...السيد موسى الصدر...

الإمام النيِّر الخلوق والمُغيَّب المظلوم... السيد موسى الصدر...
أربعة عقود على ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر ومرافقَيه الشيخ محمد يعقوب والصحفي عباس بدر الدين في ليبيا في ٣١ آب ١٩٧٨! في إطار سلسلة من الأكاذيب والمراوغة والإستهزاء والمماطلة الليبية، وفي غبار النسيان وغياب الضمير العربي والإقليمي والعالمي...
الإمام موسى الصدر المظلوم، ابن المشردين والمظلومين الشيعة على مرِّ العصور، الذي ناصر المحرومين ورفع شأنهم وتسامح مع الآخرين في لبنان، والذي دفع الثمن غالياً مع مُرافقَيه في ليبيا الغباء والظلم تحت قيادة الأرعن معمر القذافي... الإمام الذي تجاهلَ المتآمرون والمتخاذلون العرب تغييبه، وأحاطته باقي الدول كما عهدناها في قضايانا المُحِقَّة بالنسيان، والذي ربما تآمرَ عليه الشاه وهو في أواخر عهده المتهاوي في إيران، والذي تناساه "أصدقاءه" ولم يتحركوا لنصرته إلا بصوت خافت وبعد فوات الأوان، والذي لم يبقَ له أخيراً سوى أتباعه في لبنان الذين لا حَولَ ولا قوة لهم إلا بالله، والذين ما زالوا يحملونه في ذاكرتهم ويتسلحون بتذكير تغييبه ويعلِّلون النفس بأملِ عودته رغم مرور أكثر من أربعة عقودٍ من الزمان...
عجباً كيف أن التاريخ يكرَّرُ نفسه بالنسبة للسفاحين الغاشمين، وللضحايا المصلحين، وللتابعين المتأوهين، وأيضاً وللأسف لبعض التجَّار والمهلِّلين، وذلك رغم مرور القرون والعقود والسنين...
بدون أي شك٬ أن كل من يقرأ هذه الكلمات يعرف الكثير عن السيد موسى الصدر، لا سيَّما أن صورته الناصعة ما زالت مرصوصة في ذاكرتنا وأن صُوَرَه ما لبثت تملأ بيوتنا وتزيِّن مداخل مدننا وقرانا في جنوب لبنان وخصوصاً في منطقة جبل عامل، ولا سيَّما أن أتباعه في لبنان وخصوصاً في حركة أمل نشطوا في السنوات الأخيرة في إحياء ذكرى تغييبه المأساوي... وربما أن البعض يجهل بعض التفاصيل عن أصوله وعن مسيرته المجيدة في لبنان خلال عقدين من الزمن قبل تغييبه... فيطيبُ لي إذن أن أذكر وبإيجاز وبعد مراجعة بعض النصوص، بعيداً عن انتمائي للطائفة الشيعية وعن تقديري لشخصه ولإنجازاته، وبعيداً عن المغالاة والمزايدة، بعض التفاصيل عنه وعن مسيرته النزيهة التي تسبَّبت في هذه الجريمة النكراء...
ينتسب السيد موسى الصدر إلى ذرية الإمام موسى الكاظم، ويرجع بأصوله من جده الأول إلى بلدة شحور القريبة من بلدتي في جبل عامل في جنوب لبنان، وتربطه صلة قربى بالسيد عبد الحسين شرف الدين الذي ينحدر أيضاً من شحور... وُلِد الإمام الصدر في سنة ١٩٢٨ في مدينة قم الإيرانية حيث درس العلوم الدينية ونال شهادات في علم الشريعة الإسلامية والعلوم السياسية والحقوق من جامعة طهران، ثم توجه بعدها إلى النجف لإكمال دراسته الدينية... قدم الإمام الصدر إلى لبنان أول مرة سنة ١٩٥٥، فتعرف إلى أنسبائه في صور وشحور، وحلّ ضيفاً في دار كبيرهم في صور المرجع الديني السيد عبد الحسين شرف الدين الذي تعرَّفَ إلى مواهبه ومزاياه، وصار يتحدث عنه في مجالسه بما يوحي بجدارته لأن يخلفه في مركزه بعد وفاته... بعد وفاة السيد عبد الحسين في أواخر الخمسينات، استقرَّ السيد موسى في مدينة صور وهو في عنفوان شبابه. كان وسيم الوجه وبشوش المحيَّا، شديد التواضعٌ، حسن الخُلُق ويتمتع بشخصية فذة. وكان ذو ثقافة عالية يُتقن اللغات الفارسية والعربية والفرنسية، مضطلعٌ في الفقه والأدب والسياسة والفلسفة والقانون وعلم الإجتماع... ألقى العديد من المحاضرات في الجامعات والمساجد والكنائس وألَّف العديد من الكتب. تسامح ورفض التعصُّب الديني وساهم في بناء جسور الحوار مع باقي الطوائف والديانات حتى أصبح مثلاً يُقتدى به. نأى بنفسه عن التدخل في حرب لبنان الأهلية حتى أنه أضرب عن الطعام احتجاجاً عليها... ساهم في إنشاء المؤسسات الخيرية وبناء المدارس وفي طليعتها مدرسة جبل عامل المهنية. أنشأ المجلس الشيعي الأعلى وحركة المحرومين وأسس أفواج المقاومة اللبنانية المعروفة بحركة أمل التي صادفت بداية الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان سنة ١٩٧٤، والتي كان لها دوراً فعَّالاً في إزالة ذلك العدوان الغاشم في تلك الفترة... كان أيضاً معروفاً خارج لبنان وتربطه علاقات صداقة مع رؤساء دول عربية وأفريقية وأجنبية...
لمعرفة تواضعه وتسامحه مع باقي الديانات، أكتفي بذكر حادثة واقعية حصلت مع الإمام موسى الصدر في الستينات مع صاحب معمل بوظة مسيحي في صور أتاه ليشكو له من المضايقات التي بدأ يلقاها من منافس شيعي فتح معملاً للبوظة في صور وبدأ يثير الشائعات بأن البوظة المصنوعة في معمل المسيحي ليست شرعية فبدأ الناس بأكثريتهم الشيعية يعتكفون عن شراء البوظة من معمله. فإذا بالسيد موسى الصدر يأتي مع الكثيرين من أتباعه إلى معمل البوظة المسيحي ويشتري منه البوظة ويتناولها أمام الناس ويثني علي صانعها ويهنئه على جودتها. ثم ها هو يذكِّر الجميع بأن الدين هوالأخلاق والتعايش السلمي ويطلب من صانع البوظة الشيعي أن يكف عن ترويج الشائعات الكاذبة بحق زميله المسيحي...
كل هذه الأمور جعلت السيد موسى الصدر الذي يفيض بالشباب والشبوبية والتسامح مكاناً للإعجاب والتقدير من عامة الشعب من الشيعة وحتى من فئة لا يستهان بها من كافة الشعب اللبناني، ولكن وللأسف أيضاً مكاناً للغيرة والحسد، وللعداء من الإقطاعيين السياسيين الذين اتهموه بأنه عميل إيراني يحضِّر لثورة في لبنان، إلى أهل اليسار النافذين آنذاك الذين اتهموه بأنه أحد رموز الطائفية السياسية، وكذلك من رجال الدين التقليديين المتحالفين مع الإقطاع السياسي والذين اتهموه بالانحراف وبتشويه صورة رجل الدين... ناهيكم عن الحملات المركزة ضده من قِبَل منظمة التحرير الفلسطينية، ومن قِبل النظام الليبي وأتباعه في لبنان، وغضبْ شاه إيران الذي سحب منه الجنسية الإيرانية بسبب تعاطفه مع الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني... حتى وصلت كل هذه الأمور في ذروتها إلى تنفيذ محاولة اغتيال ضده ولكنها باءت بالفشل...
كثرة الحُسَّاد والأعداء وتجَّار الحروب، وغياب الدولة أثناء الحرب الأهلية في لبنانٍ اختلط فيه الحابل بالنابل، وكونه بعيداً عن الفساد يعمل على توحيد اللبنانيين، وكونه شيعياً يحاول جمع شمل الشيعة ورفع معنوياتهم، وقصر يد أتباعه في لبنان في تلك الفترة... كلُ هذه الأمور جعلت منه هدفاً يجب التخلص منه، فكان المستهتر بالأعراف والمعايير وبالأرواح الأرعن معمر القذافي المنفذ لهذه المأساة...
أما عن مصيره ومصير مرافقَيه، فلا نعرف عن ذلك سوى تجاهل الأرعن القذافي ومن ثم تجاهل المسؤولين الليبيين الحاليين لما حدث لهم، وسوى أكاذيب القذافي بأنهم غادروا ليبيا إلى إيطاليا، دون أي أثر لوصولهم إليها سوى حقائبهم التي وصلت إلى فندق في مدينة روما، والكثير من الأقاويل والتأويلات التي يجدر عدم الدخول في تفاصيل مهازلها... كلُ ذلك في غياب الضمير العربي والإقليمي والعالمي ودون حسيبٍ أو رقيب وكأن شيئاً لم يكن!!! ما زال البعض من محبيه ومناصريه يأمل حتى يومنا هذا ويؤكد أنهم على قيد الحياة رغم تقدُّمهم بالعُمر ورغم مرور السنين وظروف الإعتقال القاسية وكل الأحداث والتقلُّبات في ليبيا أخيراً! ولكننا لو حاولنا أن نرى حقيقة الأمور بعين الواقعية، لتبيَّن لنا دون عناء أنهم من الأرجح وللأسف استشهدوا وأُخفيوا على يد الطاغية القذافي ومخابراته أثناء إعلان "اختفائهم"...
وأخيراً وبهذه المناسبة ورغم كل ما يقال عن الدولة وعن القضاء في لبنان، لا يسعني إلا أن أفتخر بتبرئة القضاء اللبناني لهانيبال القذافي بعد اختطافه والتحقيق معه في هذه القضية وإطلاق سراحه منذ سنتين وعدم التنكيل به في لبنان ثأراً للإمام الصدر ومرافقَيه...
غُيِّبَ الإمام موسى الصدر في ليبيا وهو في الخمسين من عمره... تغييبه كان خسارةً كبيرة لشيعة لبنان ولكن أيضاً للبنان ولكل اللبنانيين... شأنه شأن كل المصلحين الشرفاء والشهداء الكُثُر الذين قضوا وفاءاً منهم لقضاياهم ولشعوبهم ولأوطانهم...
تحية وتقدير (ورفقاً بهم إذا ما زالوا على قيد الحياة؟) وألف رحمة على الإمام موسى الصدر ومرافقَيه الشيخ محمد يعقوب والصحفي عباس بدر الدين... وتحية لكل المخلصين الشرفاء وألف رحمة على كل الشهداء الأبرار...