علي حيدر-
لم يعد بإمكان قيادة العدو السياسية والأمنية في تل أبيب التعمية على حقيقة أن ردّ المقاومة (1 أيلول 2019) على الاعتداء الذي نفذه الجيش الإسرائيلي ضد لبنان (25 آب 2019)، شكّل بداية مرحلة جديدة في معادلات الصراع، وترجمة لقرار يهدف إلى تحقيق نتيجة من اثنتين: ردع العدو عن أصل الاعتداء، أو تدفيعه أثماناً مؤلمة، بديلاً من المعادلة التي يحاول فرضها على المقاومة ولبنان بشنّ اعتداءات متقطعة، من دون أثمان مؤلمة.
قد يكون مفهوماً ارتكاب قادة العدو الأخطاء في التقدير عشية اعتداء الضاحية. لكن في أعقاب الرد السابق (واللاحق الذي ينتظره الجميع في السماء اللبنانية)، وما رافقه من التزام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله (الرد في العمق وفي عمق العمق…)، لم يعد بالإمكان التذرع بأن سيناريو الرد سيكون مفاجئاً أو ضبابياً بالنسبة إلى قيادة العدو.
محاولة اكتشاف أهداف وسياق المعادلة التي أعلنها السيد حسن نصرالله أخيراً، تستوجب محاولة فهم ما يخطط له العدو من اعتداءات وما يستند إليه من تقديرات. في المقابل، إن محاولة اكتشاف المعادلات أو الوقائع التي يحاول العدو فرضها تستوجب أيضاً استخلاص ما يستند إليه من تقديرات إزاء حزب الله والبيئة التي تؤثر بخياراته.
يبدو أن هناك رؤية بدأت تتضح ملامحها في وعي صناع القرار الإسرائيلي، ويُعبَّر عنها في الخطابين السياسي والإعلامي، مفادها أن خيار العقوبات القصوى على إيران، الذي انتهجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لن يثمر النتائج التي كانت تراهن عليها تل أبيب.
وبدأت تتجلى، في أكثر من محطة، نتائج صمود إيران الاقتصادي والسياسي، وتعزيز قوة ردعها. والأهم بالنسبة إلى القيادة الإسرائيلية، أن إدارة ترامب عازفة عن أي خيارات دراماتيكية حتى الآن. بل أعرب الرئيس الأميركي عن استعداده للمفاوضات واللقاء بالرئيس الإيراني حسن روحاني، وهو ما عزّز منسوب القلق في تل أبيب من اتجاه التطورات في المديين المتوسط والبعيد.
ينطوي هذا المشهد الإقليمي، المغاير جذرياً لما كانت تدفع إليه تل أبيب وواشنطن، على تهديد تصاعدي يتمثل بتواصل بناء القدرات العسكرية والصاروخية لحزب الله ومحور المقاومة وتطويرها. وهو ما ترى تل أبيب، بإقرار رأس الهرم السياسي والأمني فيها، أنه سيؤدي إلى شل إسرائيل إقليمياً، ويهدّد عمقها الاستراتيجي في مواجهة مفترضة مستقبلاً.
في مواجهة هذا الواقع، من المؤكد أن تعمد قيادة العدو إلى دراسة خياراتها المضادة والبديلة. ومن الطبيعي ألّا تقف مكتوفة الأيدي إزاء مؤشرات على أي ترتيب دولي – أميركي مع إيران لا يلبي الحد الأدنى لمطالب تل أبيب المتصلة بالعناوين النووية والصاروخية والإقليمية.
قبل أن تصطدم إسرائيل بهذا الواقع، مرّت، منذ ما بعد حرب عام 2006، بمراحل ورهانات وخيارات فشلت تباعاً، على رأسها الرهان على الجماعات التكفيرية التي وفرت لها الأرضية لاعتماد استراتيجية «المعركة بين الحروب» (الغارات على قوافل السلاح ومراكز تخزينها وربما تصنيعها أو تطويرها في سوريا)، منذ مطلع عام 2013 في الساحة السورية، بهدف قطع الطريق على تزويد حزب الله بصواريخ كاسرة للتوازن.
وبعد أكثر من 6 سنوات، بدت المعركة، في نتائجها الكلية، أنها لم تؤثر جدياً بمسار تطور قدرات حزب الله كمّاً ونوعاً. المصداق الأتمّ للفشل الإسرائيلي، امتلاك حزب الله قدرات صاروخية دقيقة، أكثر من يعبّر عن مخاطرها على الأمن القومي الإسرائيلي، قادة تل أبيب وخبراؤها العسكريون.
بعد فشل الرهان على إسقاط النظام السوري وإدراكها أنها باتت أمام واقع إقليمي جديد، وسَّعت تل أبيب دائرة أهدافها بما يتلاءم مع المستجدات، فأعلنت أن هدف «المعركة بين الحروب» بات يهدف أيضاً إلى منع التمركز العسكري الإيراني في سوريا. وتحت هذا الشعار عمل جيش العدو على محاولة منع بناء قدرات الجيش السوري وتطويرها. ثم أتى الرهان لاحقاً على العقوبات القصوى التي اعتمدها الرئيس الأميركي في مواجهة الجمهورية الإسلامية. فخلص إلى ما هو الحال عليه الآن.
كشف الاعتداء الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية، بأسلوبه وسياقه وتوقيته ومكانه، عن أن العدو خلص إلى اجتراح خيار عملاني يوسِّع من خلاله اعتداءاته باتجاه الساحة اللبنانية، عبر تقنيات وتكتيكات تراعي معادلات الردع القائمة. على أمل ألّا يؤدي ذلك إلى تفجير واسع وعدم دفع أثمان تربك خياره العدواني.
من الواضح أن المخطط الإسرائيلي انطلق من أن اعتداء الضاحية يشكل بداية لمسار جديد. وهو ما لمّح إليه رئيس أركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي قبل يومين على عملية أفيفيم التي نفذها حزب الله، خلال لقائه مع مسؤولي السلطات الاستيطانية في الشمال، في سياق الحديث عن الوضع مع لبنان بالقول إن «إسرائيل موجودة في مسار يهدف إلى تغيير المعادلة». هذا بالإضافة إلى مواقف نتنياهو الذي وضع ترتيباً جديداً لسلّم الأولويات احتلت فيها مواجهة الصواريخ الدقيقة لحزب الله المرتبة الثانية بعد المشروع النووي الإيراني، وقبل مطلب إخراج إيران من سوريا.
مع ذلك، يبدو أن قيادة العدو انطلقت في خياراتها من مجموعة تقديرات تتصل بالبيئتين الداخلية والإقليمية لحزب الله، على أمل أن تساهم في كبحه عن الردود التصاعدية والمؤلمة. على رأس هذه العوامل، أن حزب الله نفسه لا يريد مواجهة واسعة، وهو ما سينعكس بالضرورة على رده على اعتداءات اسرائيلية محدَّدة ومحسوبة. إضافة الى أن الوضع الاقتصادي في لبنان سيحضر كعامل ضغط لكبح أي مسار عملاني، حتى لو كان من موقع الرد. وقد ثبت أن ما كان مخططاً له هو تنفيذ تفجير من دون بصمات صريحة للعدو، وهو ما ترى فيه تل أبيب أيضاً أنه يسلب حزب الله مشروعية الرد. في السياق نفسه، ربما ليس أمراً عرضياً اختيار فجر يوم الأحد لتنفيذ العملية.
لكن بدا حتى الآن، من خلال السقف الذي التزم به نصر الله، أن قيادة العدو أخطأت التقدير انطلاقاً من أن حزب الله عندما يقرر الرد، سيحضر لديه أيضاً بأن العدو ليس من مصلحته الذهاب نحو مواجهة واسعة وصولاً الى الحرب، وهو ما سيفرض نفسه على خياراته العدوانية. وغاب عنهم بأن حزب الله صحيح لا يريد مواجهة عسكرية واسعة، لكن على ألّا يؤدي ذلك الى قيد يستغله العدو لابتزاز المقاومة ولبنان.
في ما يتعلق بالرهان على قيد الوضع الاقتصادي ــــ السياسي الداخلي في لبنان، فإن مشكلة القوى المعادية للمقاومة أنها تخلط أحياناً بين توصيف الوقائع التي تكون فعلاً صعبة وقاسية، وبين مفاعيلها المفترضة على قرار قيادة المقاومة. وهو خطأ تكرر في العديد من المحطات السابقة واللاحقة.
ماذا بعد انتهاء جولة الردود وتثبيت «قواعد الاشتباك»؟
الرسالة الصريحة التي هدف حزب الله إلى إيصالها الى صانع القرار السياسي والأمني في تل أبيب، من خلال رده السابق (واللاحق)، حدّدها الأمين العام لحزب الله بالآتي: «إذا اعتديتم، فإن كل حدودكم وجنودكم ومستعمراتكم على الحدود وفي العمق وفي عمق العمق ستكون في دائرة التهديد والرد، قطعاً قطعاً… ستُعبّر عنه (المقاومة) في أي وقت في المستقبل بما هو أعظم وأهم وأقوى، هذه هي المعادلة».
نتيجة ذلك، يُفترض أن قيادة العدو باتت تدرك أن أي تجاوز للخطوط التي رسمها حزب الله، يعني أنها ستتلقى ردوداً مؤلمة تستوجب منها، منذ الآن، تحديد ما هي خياراتها العملانية على قاعدة خطوتين إلى ثلاث خطوات إلى الأمام.
في ضوء ذلك، باتت إسرائيل أمام الخيارات الآتية:
1 – الامتناع عن أصل الاعتداء الذي يستوجب الرد.
2 – المبادرة إلى الاعتداء وتلقي الرد، ثم الانكفاء.
3 – المبادرة إلى الاعتداء والرد على الرد.
في السيناريو الأول، يكون العدو قد امتنع عن أي مغامرة عسكرية، ويكون حزب الله قد حقق هدفه الردعي.
في السيناريو الثاني، يكون العدو قد ارتدع في نهاية المطاف، لكن بعد اختبار جدية حزب الله مرة أخرى. وهذا السيناريو سيدفع الحزب الى الارتقاء في رده عن المرة السابقة، في ضوء إصرار العدو على تعديل قواعد الاشتباك.
أما في السيناريو الثالث، فيكون العدو أمام خيار التدحرج نحو مواجهة أوسع. لكنه أقدم على الاعتداء الابتدائي، مع علمه بأن ذلك سيؤدي إلى هذا السيناريو. وعلى ذلك، نكون أمام قرار استراتيجي اتخذه العدو بالعدوان، وهو مستبعد حتى الآن.
في ضوء كل هذه السيناريوات، يكون حزب الله أيضاً قد استطاع أن يحطم القوالب والمفاهيم التي بدا أنها حاضرة عشية الاعتداء على الضاحية، في وعي قادة العدو السياسيين والعسكريين، وأعاد خلط الأوراق على طاولة صانع القرار في تل أبيب، وأربك حسابات الكلفة والجدوى لديه. والنتيجة الطبيعية لذلك، كسر المعادلة التي كان يحاول العدو فرضها على لبنان وحزب الله، عبر شنّ اعتداءات متقطّعة دون أثمان مؤلمة.
الأخبار