يمر لبنان بأزمة يبدو أنها بلغت مراحل متقدمة، دون وجود مؤشرات تدل على إمكانية معالجتها. فإلى جانب حالة الضياع التي تسود البلاد، في ظل أزمة الدولار، لم يعد المواطن اللبناني يثق بأي جهة رسمية مسؤولة، لما تمتلكه السلطة الحاكمة من قدرة عالية على تمييع الحقائق، في بلدٍ تحكمه نخبة من رجال الأعمال، وتُديره أروقة سياسية تفتقر الى السيادة بما تعنيه سيادة القانون.
فيُصبح “الإعلام” الأقوى في توجيه الرأي العام! مع ما يعنيه دخول الأمور الاقتصادية الحساسة تحت رحمة غيرة أهل الإعلام والسياسة. من هنا تبدأ قصة الخطر!
في قراءة تجارب الدول التي انهار اقتصادها، يُسعدك أنها تُشبه كثيراً الحالة اللبنانية. لكنك تفرح أكثر عندما تعرف أن الدولة اللبنانية مُتقدمة بشكل أكبر حيث إن واقعها أسرع نحو أي أزمة قد تقود للانهيار! فلا الدولة غيورة على مصالح الوطن، ولا السلطة الحاكمة مسؤولة عن حقوق الشعب! فكيف يمكن معالجة هكذا أزمة، في ظل دولة فاقدة للأهلية وفاقدة لثقة المواطن، وأمام واقعٍ يُبرز بوضوح شُحَّ الموارد الغذائية والسلعية والمالية؟
حول الأسباب الحقيقية لأزمة الدولار ومع ما تعنيه من معضلة في النظام المالي والاقتصادي اللبناني، يقول وزير الاقتصاد السابق والخبير المصرفي رائد خوري، إنها تتعلق بسعي مصرف لبنان للحفاظ على احتياط البنك المركزي من العملة الأجنية. وهو الكلام الصحيح، لكنه يُخفي كثيراً من المضامين السلبية.
يعني ذلك وجود أزمة حقيقية يعاني منها مصرف لبنان في قدرته على الدفاع عن سعر الليرة أمام الدولار، الأمر الذي دفعه للسعي للحد من المضاربة والتهافت على شراء الدولار. وهنا لا بد من التذكير بأن سياسة تثبيت سعر الصرف هي التي حافظت على قيمة الليرة أمام الدولار، فهل تغيرت سياسة مصرف لبنان في إدارة النقد؟ وماذا يعني ذلك؟
يمتلك مصرف لبنان قدرة محدودة على توفير الدولار للسلع الحيوية مع ما يعنيه ذلك من وجود شُحٍ بالدولار
باختصار، اعترف أخيراً مصرف لبنان بوجود أزمة نقد. وهو ما يعنيه عملياً التغيير في نمط إدارة النقد والتي عبَّر عنها حاكم مصرف لبنان بـ “تنظيم عملية السيولة” لاستيراد السلع (الحيوية)، ما يعني عدم القدرة على تثبيت سعر الصرف بشكل كلي يشمل السوق اللبنانية، وهو ما يعني قبول المصرف المركزي بسياسة سعر الصرف الثنائي، أي وجود سعر صرف رسمي وسعر صرف يُحدده العرض والطلب. فهل يُراهن مصرف لبنان على قدرته على التحكم بآليات العرض والطلب؟
يكفي ما تقدم للدلالة على أن لبنان دخل مرحلة الأزمة النقدية، وهي التي تبدأ عادة بولادة سوق نقد موازية للسوق الرسمية. وهنا يُصبح الوضع رهن الصراع بين السوقين! فهل يمتلك مصرف لبنان القدرة على حماية استيراد البضائع الحيوية؟ وهل يستطيع القيام بإجراءات تمنع عملية تغذية السوق الموازية بالدولار؟ لهذه الأسباب فجأة اختفى الدولار، وانخفضت قيمة الليرة الى 1630 أمام الدولار!
لكن الإجابة على التساؤل حول إمكانية النظام المالي والمصرفي اللبناني إدارة الأزمة، يبقى صعباً. والأسباب لذلك عديدة، أهمها أن غياب الرقابة المالية عن السوق، وتداخل المصالح بين السلطة الحاكمة ومافيات القطاع الخاص، كفيلة بإيجاد ساحة مشتركة للمصالح، مع ما يعنيه ذلك من ضياع حقوق المواطن. بالإضافة الى ذلك فإن إمكانية مصرف لبنان على المناورة وقدرته على توفير الدولار لدعم عملية استيراد السلع الحيوية، غير واضحة! فالأرقام المتداولة حول احتياط مصرف لبنان من العملة الصعبة متناقضة! مصادر حاكم مصرف لبنان تتحدث عن امتلاك المصرف لما يقارب 39 مليار دولار من الموجودات بالدولار. لكن خبراء ماليين يؤكدون عدم صحة ذلك، ويتفقون مع الوكالات الدولية التي تشك بصحة هذه المعطيات، وتتحدث عن أن هذا الرقم يشمل كافة الموجودات الخارجية الى جانب توظيفات المصرف من أوراق مالية في الأسواق الخارجية، وهي لا تُعد من ضمن السيولة الجاهزة للاستعمال! فتُصبح قيمة الاحتياط الذي يمكن استعماله ما يقارب 19 مليار دولار مع احتساب الذهب الذي يملكه المصرف المركزي. لنقول بالنتيجة إن أرقام المصرف المركزي مُضخمة، رغم أنها تدل على قدرته المحدودة في توفير السيولة!
إذاً، يمتلك مصرف لبنان قدرة محدودة على توفير الدولار للسلع الحيوية مع ما يعنيه ذلك من وجود شُحٍ بالدولار. ويبدو واضحاً الدخول في خيار السياسة التقشفية لعمليات شراء الدولار. تكفي هذه الأسباب لتبرير الارتفاع في سعر الدولار أمام الليرة اللبنانية، وهو ما يُبرر أيضاً رفض المصارف التسليف بالدولار والتمسك به. كل هذه الدلالات تقود الى نتيجة واحدة: لقد بلغت أزمة النقد مرحلة خطيرة، أثبتها التغيُّر في نمط مصرف لبنان في إدارة النقد تحت مُبرر توفير الدولار في ظل الضغوط المالية، وهو الأمر الذي بقي مُقدساً في لبنان ومنذ العام 1993.
المصدر: العهد