كتبت "الجمهورية": إجتمعت مجموعة مستقلة من أخصائيي التنمية والخبراء الاقتصاديين والخبراء الماليين في بيروت لمناقشة الأزمة الاقتصادية الحالية وسبل الخروج منها. ونشر معهد كارنيغي للدراسات مذكرة تلخّص المداولات، وتضع خطة عمل من 10 نقاط تهدف إلى وقف الأزمة ووضع البلاد على مسار الانتعاش المُستدام.
أكد خبراء اقتصاديون وماليون اجتمعوا في بيروت، انّ عواقب المسار الحالي كارثية، في حين لن تؤدّي التأخيرات في المعالجة إلا إلى زيادة التعقيدات وتضخيم التعديلات المطلوبة أضعافاً مضاعفة ووضع العبء على من هم أقل قدرة على تحمّله. لكنهم اشاروا الى وجود خيار أفضل متاح رغم انه لن يكون سهلاً وقد يثبت أحياناً أنه مؤلم، وسيتطلب بالتأكيد عقداً اجتماعياً جديداً. وشدد الخبراء على أنّ هذا النهج سيمهّد الطريق لمستقبل أفضل ومزدهر.
أين نحن الآن؟
يعاني لبنان حالياً 3 أزمات في وقت واحد:
الأزمة الأولى هي ميزان المدفوعات وأزمة العملة. وقدّر الخبراء أن تبلغ الفجوة بين العرض بالدولار الأميركي والطلب بالدولار الأميركي 8 مليارات دولار في العام 2020. موضحين انه إذا لم يتم سد هذه الفجوة، سيواجه الاقتصاد صعوبات بما في ذلك خدمة الدين الخارجي، ونقص السلع المستوردة، وانخفاض قيمة العملة، والانكماش الاقتصادي.
الأزمة الثانية: أزمة المالية العامة. مع ارتفاع نسبة العجز الى الناتج المحلي الإجمالي الى 10 في المئة في عام 2019، تنهار الايرادات الحكومية حالياً تحت وطأة الركود والأزمة المصرفية القائمة. كما انّ الإنفاق المعدّل حسب التضخم ينهار أيضاً. وبالتالي، قدّر الخبراء ان يبلغ العجز الأوّلي في الموازنة 3 مليارات دولار (باستثناء مدفوعات الفوائد) لعام 2020، لتصبح في الوضع الحالي، إمكانية تمويل هذا العجز تحدّياً كبيراً.
الأزمة الثالثة: أزمة النظام المصرفي. بما انّ حوالى نصف أصول المصارف مستثمرة في المخاطر السيادية اللبنانية بما في ذلك مصرف لبنان، وبما انّ 25 في المئة من الاصول الاخرى هي اصول القطاع الخاص المحفوفة بالمخاطر، فإنّ المصارف أصبحت مفلسة وخالية من السيولة، والقطاع لا يزال يشهد عمليات خروج للودائع.
عواقب المسار الحالي
رأى الخبراء انّ الاستمرار في النهج الحالي في صياغة السياسات سيقود لبنان على طريق الانهيار والتفكك السياسي، وتوقعوا 7 نتائج:
1- سيعاني الاقتصاد ركوداً عميقاً، وسيُجبر نقص الدولار الأميركي الاقتصاد على التكيف مع انخفاض الواردات. ستضرب الضوابط المصرفية على رأس المال القطاع الخاص الذي يعتمد على السيولة والائتمان، وقد بات إقفال المؤسسات وخفض الرواتب وتسريح العمال أمراً شائعاً بالفعل. سيتقلّص حجم القطاع العام بسبب ظروف التمويل الصعبة. وفي ظل هذا السيناريو، توقع الخبراء أن يعاني الاقتصاد انكماشاً مزدوج الرقم في العام 2020، أي انه سيعاني كساداً يعادل ما شهدته الولايات المتحدة أثناء الكساد العظيم.
2- سيتراجع صرف العملات بشكل كبير، وستواصل الليرة اللبنانية الاتجاه الهبوطي لتحقق التوازن بين العرض والطلب بالدولار الأميركي. ويقدّر الخبراء أن تفقد العملة نصف قيمتها مما سيؤدي إلى ارتفاع التضخم.
3- سيتم تكثيف الضوابط على رأس المال في البنوك التي ستواصل تقنين عمليات سحب الودائع والتحويلات الخارجية. وستتفاقم أزمة السيولة في القطاع الخاص، وستصبح حالات التخلّف عن سداد الديون (بما في ذلك سندات اليوروبوند) حتمية. وسيُستنزف احتياطي مصرف لبنان من العملات الاجنبية.
4- ستتفاقم الظروف الاجتماعية المنهكة، وسيتسبب هذا النوع من الانهيار الاقتصادي في تدمير الثروة بشكل كارثي. قد ترتفع معدلات الفقر إلى أكثر من 40 في المئة من السكان اللبنانيين حيث لن يستطيع 1.6 مليون شخص توفير تكاليف المواد الغذائية وغير الغذائية الأساسية. سيرتفع معدل البطالة وستتقلّص الطبقة الوسطى تدريجاً.
5- ورجّح الخبراء أن يحدث تحول سياسي زلزالي، لن تخرج منه الأحزاب السياسية الحالية سالمة. وستكون التداعيات الأمنية للاضطرابات الاجتماعية كبيرة لدرجة يصعب التنبؤ بها.
6- من دون معالجة الأسباب الجذرية، ستثبت الأزمات أنها طويلة الأمد.
7- أخيراً، من المرجّح أن يكون الدعم المالي الدولي أقل بكثير مما هو مطلوب لتخفيف الضغط على الاقتصاد.
هل هناك مقاربة أفضل؟
يعتقد الخبراء أنّ هناك مقاربة أفضل لحلّ الأزمة. لذا، سنُثبت الخطوط العريضة لبرنامج مدّته 3 سنوات يهدف إلى وقف الأزمة والتعامل مع أسبابها الجذرية وإعادة البلاد إلى مسار الانتعاش. يسعى البرنامج إلى ضمان التقاسم العادل لأعباء تداعيات الأزمة مع حماية الفئات الأكثر ضعفاً خصوصاً خلال فترة الانتقال. يجب تنفيذ الخطوات العشر بشكل متوازٍ بدلاً من التجزئة.
1- إنشاء لجنة توجيه طوارئ اقتصادية مفوّضة لتصميم البرنامج والتفاوض عليه وتنفيذه.
2- تنظيم الضوابط التي تفرضها المصارف على رأس المال والعمليات المصرفية. من المحتمل أن تكون هناك حاجة إلى تلك الضوابط لفترة طويلة حتى في ظل حدوث أفضل السيناريوهات، لكن يجب أن تُدار بطريقة مركزية وشفافة تدعمها التشريعات المناسبة.
3- التعامل بشكل حاسم مع ديون القطاع العام. الإعلان فوراً عن وقف مدفوعات الديون (الخارجية والمحلية) وتوظيف مستشار قانوني وعقد لجنة للدائنين.
4- الشروع في إصلاح مالي موثوق. يجب تحويل الإنفاق العام الذي يتّسِم بالهدر والفساد. ليس قطاع الكهرباء سوى مثال واحد. هناك حاجة إلى برنامج للحوكمة والإصلاح التنظيمي بالجملة للحد من ثقافة البحث عن الإيجار. ثانياً، هناك حاجة إلى إصلاح واسع للإيرادات يركز بدرجة أقل على رفع معدلات الضرائب وأكثر على معالجة ضعف التحصيل والاعتماد العلني على قطاعات محددة. ثالثاً، أوصى الخبراء باعتماد "قاعدة مالية" ملزمة وذات مصداقية تحد من حجم عجز الميزانية في المستقبل.
5- التعامل مع ديون القطاع الخاص الذي يواجه أزمة حادة. يجب عقد اجتماع بين الدائنين والمدينين للاتفاق على قائمة موحدة لإجراءات الإغاثة المالية تهدف إلى حماية الشركات القابلة للحياة في مقابل تسييل الشركات غير القابلة. ويجب إقرار مشروع قانون الإفلاس وإعادة الهيكلة الحالي.
6- إصلاح الميزانية العامة لمصرف لبنان الذي يعتبر مقرضاً كبيراً للحكومة ولديه مركز صافٍ سلبي من العملات الاجنبية يقدّر بـ 30 مليار دولار أميركي، مما يجعله عرضة لخفض قيمة العملة.
7- تعافي القطاع المصرفي هو شرط أساسي لتنشيط الاقتصاد. إنّ إعادة هيكلة الدين العام وزيادة حجم القروض المتعثرة (NPLs) سيجعل العديد من البنوك مفلسة. ومما يزيد الأمور تعقيداً، أنّ البنوك معرّضة بدرجة كبيرة إلى مصرف لبنان الذي بدوره يعاني ميزانية ضعيفة. وبالتالي، تشير تقديرات الخبراء إلى وجود حاجة ماسة لـ20 إلى 25 مليار دولار من رأس المال الجديد. حيث يحتاج المساهمون الحاليون إلى تحمّل الخسائر والمطالبة بجلب رؤوس أموال جديدة. وهذا الأمر قد يتطلب أيضاً خفض عدد البنوك.
8- الحفاظ على السلم الاهلي من خلال التركيز على العدالة الاجتماعية، وهذا ينطوي على توزيع الخسائر على أغنياء المجتمع وتجنيب صغار مودعي البنوك. يجب استخدام التمويل الأجنبي لتخفيف آلام التكيّف، وإنشاء شبكة أمان لمكافحة الفقر ودعم الصحة والتعليم. وينبغي مساعدة العمال على الانتقال من قطاعات التدهور إلى القطاعات التي تستفيد من تخفيض قيمة العملة.
9- إعادة النظر بسياسة ربط سعر الصرف. لقد ساهم نظام سعر الصرف الثابت (والمبالغ في تقديره) في عجز كبير في الحساب الجاري، وألحقَ الضرر بالقطاعات الموجّهة للتصدير، وأجبرَ مصرف لبنان على الحفاظ على أسعار الفائدة المرتفعة. لذلك، أوصى الخبراء بترتيب سعر صرف أكثر مرونة يتركّز حول ليرة أضعف.
10- تأمين صندوق لتمويل الاستقرار والإصلاح الهيكلي بقيمة مقدرة عند 25 مليار دولار لمدة 3 سنوات. يجب استخدام هذا التسهيل لدعم صافي احتياطات مصرف لبنان والمساعدة في تمويل الاحتياجات الفورية للميزانية الحكومية وتمويل الإنفاق الاجتماعي، والمساهمة في إعادة رسملة البنوك. يمكن للبرنامج الاقتصادي الموصى به أعلاه الحصول على هذا النوع من الدعم، بما في ذلك من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، فإنه سيتطلّب وجود برنامج لصندوق النقد الدولي كمظلّة.