الليرة اللبنانية أمام أسبوع مصيري: الحلحلة السياسيّة أو الجنون!

إنّ المخاطر النقديّة المتعلّقة بالليرة وسعر الصرف، والناتجة عن استنزاف الاحتياطي واقتراب توقّف دعم السلع الرئيسية، من أدوية وطحين ومحروقات، تضع لبنان على مشارف مرحلة تضخم جنوني ومفرط وانهيار كبير وسريع في قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي.

هذه المرحلة لم تعد بعيدة عنّا، وثمّة من يقول إنّ ما تبقّى من وقت قبل الوصول إليها لا يتجاوز الشهر كحدّ أقصى. ورهانات لبنان قليلة: مؤتمر المانحين وصندوق النقد، وبعض الإصلاحات المطلوبة من هذه الأطراف. لكنّ كلّ الرهانات تمر بمهمّات ملقاة على عاتق الحكومة المقبلة، وإذا تعثّر مسار التشكيل السريع والعاجل خلال الأيام المقبلة، فستكون البلاد أمام السيناريوهات الجهنميّة، التي وعد بها رئيس الجمهوريّة نفسه.

فما إن أعلن رئيس الحكومة المكلّف اعتذاره عن تشكيل الحكومة، حتّى قفز سعر صرف الليرة في السوق الموازية بشكل خاطف وسريع إلى مستويات تراوحت بين الـ 8200 و8300 ليرة مقابل الدولار، فيما جرى تسجيل أسعار تجاوزت حدود 9000 ليرة مقابل الدولار في بعض المناطق البقاعيّة. عمليّاً، كانت الاندفاعة السريعة لسعر الصرف مسألة متوقّعة خلال أولى ساعات ما بعد الاعتذار، خصوصاً أنّ هذا السعر تراوح بحذر طوال الأسابيع الماضية عند هامش لم يتجاوز 8000 ليرة للدولار، بانتظار تبلور المشهد على المستوى الحكومي. ولذا كان من الطبيعي أن يثير الاعتذار موجة من الطلب السريع على الدولار استباقاً لما قد تحمله الأيام المقبلة من تطوّرات سلبيّة.




عمليّاً، يمكن القول إنّ الأسبوع المقبل سيمثّل منعطفاً حسّاساً في كلّ ما يتعلّق بمستقبل سعر الصرف. فردود الفعل الفرنسيّة الأوليّة لم تخرج عن إطار المواقف البروتوكوليّة، المؤكّدة على استمرار المبادرة الفرنسيّة والدعم للبنان وعدم ارتباطهما بشخص معيّن. لكنّ الأيام القادمة هي التي ستحدّد على المستوى المحلّي مستقبل مسار تكليف الرئيس الجديد، وإمكانيّة حصول تسويات أو تنازلات جديدة وسريعة جدّاً تفتح الباب أمام حلحلة العقد التي عرقلت تشكيل حكومة أديب خلال الأيام الماضية. أما إذا تبيّن أنّ مستقبل المشهد على المستوى الحكومي مرهون بجملة من العقد التي ستحتاج المزيد من الوقت لمعالجتها، فالمشهد النقدي سيكون مفتوحاً على سيناريوهات مأساويّة، عنوانها التضخّم الجنوني والانهيار السريع في سعر الصرف، خصوصاً أنّ الوقت المتاح قبل الوصول إلى هذه المراحل بات يُحتسب بالأيام لا بالأسابيع والأشهر.

فاحتياطات المصرف المركزي المتبقّية، والقابلة للاستخدام في عمليات دعم الاستيراد، لا تتجاوز حدود الملياري دولار في أفضل الحالات، وفقاً لما بات يؤكّد حاكم مصرف لبنان نفسه. وعمليّاً، كان من المفترض أن تكون هذه الاحتياطات قادرة على توفير حاجة البلاد لدعم استيراد السلع الأساسيّة حتّى نهاية السنة، أو لغاية شهرين من الآن على الأقل، وفقاً لمعدّلات الأشهر الماضية. لكنّ آخر الأرقام التي نشرها مصرف لبنان، أظهرت أنّ وتيرة انخفاض هذا الاحتياطي بلغت نحو 2.3 مليار دولار شهريّاً، وهو ما يطرح أسئلة كبيرة عن قدرة مصرف لبنان على الاستمرار في دعم الاستيراد لأكثر من شهر وفقاً لوتيرة الاستنزاف هذه. مع العلم أنّ توفير الدعم أو عدمه، يتصل بشكل وثيق بالطلب على الدولار في السوق الموازية، خصوصاً أنّ رفع الدعم أو تقليصه سيعني تلقائيّاً اتجاه الطلب إلى السوق الموازية لتوفير الدولارات المطلوبة للاستيراد.




مع زيادة الضغوط على الاحتياطي، كان الرهان يتركّز بشكل أساسي على تقنين استعماله وتخفيض الدعم بشكل تدريجي، بانتظار مؤتمر المانحين الذي كان من المفترض أن يُعقد في النصف الثاني من تشرين الأوّل المقبل، برعاية فرنسيّة. لكنّ استنزاف الاحتياطي السريع، سيقلّص الهامش الممنوح للبنان في تخفيض الدعم بشكل متدرّج وفقاً للخطط المعقودة سابقاً. أما تعثّر تشكيل الحكومة خلال الفترة الماضية، فلن يعني سوى عرقلة مؤتمر المانحين وأموال الدعم الموعودة. وفي الحالتين، لن تعني كلّ هذه التطوّرات سوى المزيد من الضغط على سعر الصرف في السوق السوداء خلال المرحلة القادمة، وصولاً إلى سيناريو التضخّم المتفلّت من أيّ قيود.

لكل هذه الأسباب، باتت البلاد أمام منعطف مصيري وحسّاس. فإذا تبيّن خلال الأيام القادمة أنّ مسار تشكيل الحكومة سيدخل في أتون التجاذبات المعتادة وفرض الشروط، كما حصل خلال الأسابيع الماضية، فمن الأكيد أنّ اللبنانيين سيكونون على موعد مع المزيد من التطوّرات الخطيرة على المستوى النقدي والاقتصادي، وتحديداً على مستوى سعر صرف الليرة. فعرقلة تشكيل الحكومة لن تعني فقط المزيد من التأجيل في حصول مؤتمر المانحين كما كان متوقّعاً، بل تأجيل الخطوات الضروريّة لاستقدام الدعم المالي، كصياغة مسودة مشروع الكابيتال كونترول، والذي بات شرطاً أساسيّاً لجميع الجهات الداعمة قبل منح أيّ مساعدات للبنان.

في المقابل، يرتبط الملف الحكومي بمستقبل سعر الصرف من ناحية أخرى. فالمفاوضات مع صندوق النقد معلّقة منذ سقوط حكومة دياب، والفراغ الحكومي لن يعني تجميد المفاوضات فحسب، بل أيضاً تأجيل جميع الخطوات التي اشترطها الصندوق قبل متابعة المفاوضات مع لبنان، وأهمها الانتهاء من صياغة خطة إصلاح مالي متوافق عليها محليّاً، ليجري التفاوض مع الصندوق على أساسها. علماً أنّ فرنسا مارست مؤخراً الكثير من الضغوط في أروقة صندوق النقد، لتسريع مسار المفاوضات مع لبنان بمجرّد تشكيل الحكومة وإقرار خطّتها الماليّة، في محاولة لتلافي سيناريوهات الانهيار النقدي الشامل والسريع في البلاد. لكنّ تعثّر المسار الحكومي في الأيام المقبلة سيؤدّي عمليّاً إلى تجميد هذا المسار، وبالتالي تجميد الدعم المنتظر.

المصدر : أساس ميديا