هكذا تبخّرت أموال اللبنانيّين وودائعهم...

منذ سنة "بالتمام والكمال" يعيش ال​لبنان​يّون ذلاًّ ما بعده ذلّ، في كلّ مرّة يرغبون فيها بسحب الفُتات من أموالهم وودائعهم في ​المصارف​ بعد إقتطاع هذه الأخيرة الجزء الأكبر منها. وهم يقفون مَشدوهين ليس فقط أمام المبالغ الضئيلة التي يحقّ لهم بسحبها، وليس فقط أمام إنهيار قيمة العملة الوطنيّة وتراجع القُدرة الشرائية لليرتهم بشكل مخيف، بل أيضًا أمام الحديث الدائم عن تبخّر أموالهم وودائعهم. فكيف يُعقل أن تختفي عشرات بل مئات مليارات ​الدولار​ات؟!.


الإجابة على هذا السؤال اللغز يُبرّرها الكثيرون بجملة من الأسباب المُتداولة في الوسط الشعبي، لكنّ هذه الأسباب تُغفل سببًا أساسيًا هو أساس المصيبة التي نحن فيها. وبالنسبة إلى الأسباب المَعروفة، فهي تُختصر بالتالي:
أوّلاً: قيام المصارف بإيداع أموال اللبنانيّين لدى ​مصرف لبنان​، في مُقابل فوائد مُرتفعة وسريعة، وقيام ​الدولة​ اللبنانيّة بالإستدانة بشكل مَفتوح من هذه الأموال، بحيث راحت تغرق رويدًا رويدًا تحت وطأة إرتفاع ديونها، إلى أن وصلت إلى مرحلة عجزت فيها عن إعادة الأموال المُستدانة.
ثانيًا: دعم الدولة للكثير من السلع الأساسيّة، خاصة على مُستوى المُشتقّات النفطيّة من مازوت وبنزين وفيول وطحين وأدوية، إلخ. وتسجيلها خسائر بمليارات الدولارات سنويًا، الأمر الذي زاد من عجزها.
ثالثًا: تعرّض ماليّة الدولة للنهب المُنظّم، عبر صفقات وسمسرات و​سرقات​ في الكثير من القطاعات والمؤسّسات، في ظلّ تفشّي ​الفساد​ والغشّ وغياب المُحاسبة.
رابعًا: تعرّض لبنان لعدوان إسرائيلي مُدمّر في العام 2006، وكذلك تعرّضه لخضّات أمنيّة وسياسيّة مُتعدّدة خلال العقدين الأخيرين، وتكبّد خزينة مصرف لبنان خسائر فادحة في كل مرّة.
خامسًا: عدم إغلاق مزاريب هدر عدّة، من وزارات لإعادة المُهجّرين، مُرورًا بمجالس للجنوب وهيئات للإعمار ولدعم ​النازحين​ وصناديق مُختلفة، وُصولاً إلى زيادة غير مدروسة لرواتب ​القطاع العام​ لأهداف إنتخابيّة، وغيرها الكثير من الخُطوات غير المَحسوبة النتائج ماليًا.
لكن وبحسب خبراء إقتصاديّين مُتخصّصين، إنّ كل هذه الأسباب المَذكورة أعلاه صحيحة، لكنّها ليست المُشكلة الأساسيّة لتبخّر أموال اللبنانيّين وودائعهم. والسبب الرئيس بحسب هؤلاء، هو التثبيت الوهمي لسعر صرف الدولار، وإستفادة اللبنانيّين من هذا الأمر ليعيشوا حياة رفاهيّة على مدى ربع قرن، من دون أن يعلموا أنّهم كانوا عمليًا يستهلكون اموالهم وودائعهم في المصرف! كيف ذلك؟.
عندما كانت تحصل أيّ أزمة أمنيّة أو سياسيّة أو أيّ خضّة داخليّة، كان ​المصرف المركزي​ يتدخّل لتثبيت سعر صرف الدولار عند ألف وخمسمئة ليرة لبنانية لكلّ دولار أميركي، الأمر الذي كان يُريح اللبنانيّين ظاهريًا، من دون أن يعلموا أنّهم كانوا في كل مرّة يخسرون مئات ملايين الدولارات من أموالهم الخاصة! وعندما كانت الدولة تُقدّم الدعم وتُخفّض أسعار بعض السلع والخدمات الأساسيّة، كان اللبنانيّون مُرتاحين لهذا الواقع ولهذه الخدمات، من دون أن يدركوا أنّ تمويل هذ الدعم كان عمليًا من أموالهم ومن ودائعهم التي كان يُفترض أن تكون محفوظة كأمانات لدى المصارف، وليست عرضة للإستغلال من قبلها في مُقابل فوائد عاليّة، وليست عرضة للإستغلال من قبل الدولة في مُقابل وُعود بإعادتها لم تحترمها السلطات السياسيّة المُتعاقبة. والأهمّ من كل ذلك، كان العامل اللبناني العادي الذي يقبض مثلاً مليون ونصف المليون ليرة لبنانية، يقوم بتحويل راتبه إلى الدولار الأميركي فيحصل على ألف دولار، لأن سعر الصرف مُثبّت وهميًا! أي عمليًا، كان اللبناني يُسافر ويتنزّه ويأكل في ​المطاعم​ ويشتري المنازل والسيّارات والثياب، ويعيش حياة من الرغد والرفاهيّة، حتى لو كان موظّفًا متوسّط الدخل، يقبض بحدود ثلاثة أو أربعة ملايين ليرة، لأنّ دخله كان يؤمّن له ألفيأو ثلاثة آلاف دولار أميركي، بسبب تثبيت سعر الصرف وهميًا. وهذا التثبيت كان يتمّ من خلال إستخدام أموال اللبنانيّين وودائعهم في المصارف، بحجّة عدم إرتفاع سعر الدولار.أكثر من ذلك، كان دخل بعض اللبنانيّين يفوق بشكل مُستغرب وغير منطقي، دخل ومدخول العديد من الموظّفين والعاملين في دول أوروبيّة وغربيّة مُختلفة، يعملون في القطاعات والمهن نفسها، وهذا أكبر دليل على الخدعة الوهميّة التي وقعنا جميعًا فيها!.
وبحسب الكثير من الخُبراء، كان يجب ترك سعر الصرف يتحرّك بحريّة، تبعًا للحركة ​الإقتصاد​يّة.ولوّ تمّ ذلك في الماضي، لكان:
أوّلاً: كانفُقدان قيمة ​الليرة​ ليحصل بشكل بطيء وتدريجي، وليس كما حصل أخيرًا بشكل إنهيار كامل خلال فترة زمنيّة قصيرة جدًا.
ثانيًا: كان اللبناني ليُرتّب حياته ومعيشته تبعًا لدخله، وكان ليضبط مَصروفه وفقًا لمدخوله ​المال​ي الحقيقي وليس الوهمي، حتى لو فقد جزءًا من قُدرته الشرائيّة تدريجًا مع الإرتفاع الذي كان سيحصل لسعر صرف الدولار.
ثالثًا: كانت أموال وودائع الناس لتبقى مَحفوظة في المصارف، من دون أيّ قُيود عليها، بحيث بإمكان أي شخص سحب أمواله عندما يرغب.
في الخُلاصة، إنّه خيار تثبيت سعر صرف الدولار الذي دعمه خُبراء في علم المال والإقتصاد، ورفضه وعارضه آخرون في المجالين المذكورين. كانت حجّة المُدافعين عن هذا القرار، أنّ تثبيت سعر الصرف سيُشجّع المُستثمرين، وسيُحرّك ​الدورة​ الإقتصاديّة، وسيجلب السيّاح والأموال، إلخ. في المُقابل، كانت خشية الرافضين لهذا الخيار أنّ تؤدّي الخلافات والخضّات الأمنيّة والسياسيّة، والمشاكل الدائمة والمَفتوحة بين المسؤولين السياسييّن والحزبيّين في لبنان، إلى إستهلاك كامل الأموال لمنع إرتفاع سعر الصرف. واليوم لا نحتاج لكثير من التبصّر لمعرفة من كان على حقّ، ولوّ بعد فوات الأوان! وإذا كان من غير المُستغرب أنّ المسؤولين لدينا يُواصلون ما جنته أياديهم من إنهيار كامل، فإنّ المُستغرب أن يبقى بعض اللبنانيّين مُستزلمين لهذا أو ذاك من المسؤولين الفاشلين والذين أوصلونا مُجتمعين إلى ما نحن فيه!.