طفل "توفي" بعد أيام قليلة على ولادته، كان أهله أحضروه إلى مستشفى في بيروت، فطلبت إدارة الأخيرة مبلغًا وقدره عشرة ملايين ليرة عن كلّ ليلة، ونظرًا لعدم إمكانية تأمين الأموال، تنقّلوا به وهو في وضع حرج، إلى أن تمّ استقباله في مستشفى آخر، لكنّه ما لبت أنّ فارق الحياة، ربما لو تلقى العلاج في التوقيت المناسب لكان حيًّا يرزق. شاب تعرّض لحادث سير، وكان بحاجة إلى عملية جراحيّة على وجه السرعة، ونظرًا لتعذّر إجرائها في المستشفى حيث أُدخل، نظرًا للنقص الكبير في المستلزمات، نُقل إلى أخرى وأُجريت العملية، لكن ربما بعد فوات الأوان، وها هو يرقد بين الحياة والموت.
نموذجان من مئات النماذج المشابهة عما يحصل مع الناس المتروكة لقدرها. المستشفيات باتت خالية من الأدوية والبنج ومستلزمات ضرورية في العمليات، والكادر الطبي والتمريضي يتناقص بشكل كبير بفعل هجرة هؤلاء. هذه حالنا في لبنان، البلد الذي امتاز بقطاعه الصحي، وكان مقصدًا لأخوانه العرب في السياحة الإستشفائية.
Normix من 15 ألف إلى 450 ألف !
في ظل هذه الأوضاع غير المسبوقة في جهنّميتها، تتفاقم أزمة الدواء، وتختفي معظم الأدوية، فيما ترقص مافيات الدواء على جثت اللبنانيين، رافضة التخلي عن تاريخها الحافل في التجارة وتحقيق الأرباح الفاحشة. أبرز دليل على ذلك، أنّ دواء Normix الذي يُستخدم لمعالجة حالات الإسهال والتسمم الغذائي، يباع بـ 450 ألف ليرة، بحسب ما أشار رئيس لجنة الصحة النيابية الدكتور عاصم عراجي لـ "لبنان 24" علمًا أنّه سُعّر من قبل وزارة الصحة بعد رفع الدعم بـمئة وألفي ليرة، وكان سعره قبل رفع الدعم 15 ألف ليرة. عراجي يقول إنّ الأمور تتأزّم يومًا بعد يوم "وفي الأيام القادمة سنواجه فقدانًا إضافيًّا في الادوية، وفي حال وُجدت ستباع على سعر السوق الموازية. كما أنّ أدوية الأمراض السرطانية وأدوية المناعة مفقودة، مع العلم أنّ مصرف لبنان دفع 87 مليون دولار خلال شهر تموز لشرائها، لكن الشركات المستوردة وبدل أن تشتري هذه الأدوية حسمت المبلغ من الفواتير القديمة".
بو شاهين: حياة المرضى مهددة بفعل فقدان الأدوية من المستشفيات
مدير المركز الوطني لجودة الدواء والغذاء والماء في لبنان، وعضو اللجنة الفنيّة والعلميّة الخاصة باللقاح ضد كورونا الدكتور نزيه بو شاهين كشف بدوره عن واقع مأساوي"نحن على تماس مباشر مع المستشفيات، هناك نقص كبير في أدوية ضرورية، حتّى أنّ المسكّنات البسيطة المستخدمة في المصل مفقودة، وكذلك الأدوية الملوّنة المستخدمة في تمييل شرايين القلب والرسورات والسكانر الملونة، وهنا تكمن الخطورة، لا سيّما بالنسبة للذين يتعرضون لذبحة قلبية. أدوية الأمراض السرطانية والمناعية بدورها لم تعد موجودة في وزارة الصحة، وهذه أدوية باهضة الثمن تقدّر بآلاف الدولارات، ولا يمكن للمرضى تأمينها. هذه الأدوية حيوية، بحيث أنّ وجودها مسألة حياة أو موت بالنسبة للمريض. نحن أمام كارثة حقيقية ولا نقول ذلك في سياق التهويل الإعلامي، بل هو واقع يواجه المريض".
لا أدوية لكورونا
أمّا الحالات المرضية التي لا تستدعي دخول المستشفى فليست أفضل، بفعل فقدان الأدوية من الصيدليات، وما وجد منها بات سعره خياليًّا. في السياق يقول دكتور بو شاهين أنّهم يستغلون الطلب على أدوية تستخدم لأمراض موسميّة، فيرفعون سعرها نظرًا لزيادة الطلب عليها "كنّا قد حذرنا من موسم التسمم الغذائي في فصل الصيف وفقدان الأدوية المعالجة لهذه الحالات، أبرزها normix flagyl Imodium، في فصل الشتاء سيتراجع الطلب على هذه الأدوية وينخفض سعرها، مقابل ارتفاعه على الأدوية المضادة للإلتهابات وأدوية الرشح، وهكذا يخضعون الدواء للعرض والطلب. أمر لا يقل خطورة، يكمن بفقدان الأدوية المستخدمة في معالجة الكوفيد، مع إعادة تفشّي الوباء في لبنان وانتشار المتحوّر دلتا، وكنّا قد حذّرنا منذ أيار الماضي من خطورة موجة جديدة بظل انقطاع الأدوية، وها نحن وصلنا إلى ما كنّا نخشاه، بحيث تطلب المستشفيات من مرضى كورونا تأمين الأدوية والبلازما، وهي غير موجودة في السوق".
مصرف لبنان لا يوقّع الإعتمادات، يقول إنّه أنفق على الأدوية بستة أشهر ما يزيد عما أنفق خلال العام الماضي كاملًا. التهريب ناشط، والمتورطون كثر، هؤلاء يتاجرون بأرواح الناس غير آبهين سوى بالأرباح، في السياق كشفت مصادر ل" لبنان ٢٤"، أنّ مصنعين في لبنان يستفيدان من استيراد الأدوية المدعومة ويعيدان تصديرها، ولا أحد يردع هؤلاء، بظل حكومة مستقيلة حتّى من تصريف الأعمال بحدوده الضيقة، وتتفرج على عذابات الناس.
ما الحل؟
يجيب بو شاهين "بدأنا بالحل قبل سنوات، أثناء تولي النائب وائل أبو فاعور وزارة الصحة، قدّمنا اقتراحًا، بموجبه تضع كلّ المؤسسات الرسمية الضامنة برنامجًا، يتضمّن حاجتها السنوية من الأدوية، أي وزارة الصحة وتعاونية موظفي الدولة والأسلاك العسكرية وصندوق تعاضد أساتذة الجامعة اللبنانية، كلّ هذه المؤسسات تجري مناقصة عالمية موحّدة، وتستورد حاجياتها مباشرة. وقد تمّ تشكيل لجنة وزارية، كنت عضوا في اللجنة إلى جانب مدير عام تعاونية موظفي الدولة الدكتور يحيى خميس، وعقدنا اجتماعين، لاحقًا توقّفت الإجتماعات من دون سبب، وبتصوري لم يكن الأمر مناسب للشركات المستوردة نظرًا لأرباحها الكبيرة
يتحدث بو شاهين عن فوضى كبيرة في قطاع الدواء "إذ ليس طبيعيًّا وجود 5 الآف صنف دواء مسجّل، وهناك عدة أنواع جنريك للدواء الواحد. لا بدّ من ترشيق اللائحة".
يلفت بو شاهين إلى أنّ هناك أدوية موجودة في المستودعات لا توزع، وهذه الأدوية ستنتهي صلاحيتها " مسؤولية الأزمة الدوائية مشتركة بين وزارتي الصحة والمال ومصرف لبنان ونقابة مستوردي الأدوية ونقابة الصيادلة. والمطلوب تخفيف حدود الجشع والطمع، كالتقليل من هامش الأرباح في هذه المرحلة الحرجة والمصيرية".
في ظل هذه الصورة الموجزة والحقيقيّة عما يحصل في المستشفيات، لا يمكن لعاقل أن يتخيّل أنّ في لبنان من يؤخّر تأليف حكومة، مقدّمًا حصصه الخاصة على حياة خمسة ملايين لبناني. توصيف الوضع بالكارثي لا يفي بالغرض، هناك تعبير لما هو أخطر من الكارثة لم تخترعه اللغات بعد.