موظفو الدولة: فقر مدقع براتب 1.90 دولار يومياً

"لم يعد دقيقاً توصيف الوضع الراهن في لبنان بأنه انهيار قيمة العملة اللبنانية وما يترتب عليه من انعكاسات اجتماعية. فالوضع مختلف وأسوأ مما يظن البعض. فالانهيار المالي والاقتصادي، وخسارة اللبنانيين مدخراتهم وقيمة مداخيلهم، أدخلت غالبيتهم في فقر تظهر وقائعه المأسوية قريباً. وهذه بعض تباشيرها.

فقر مدقع
ومن هؤلاء موظفو القطاع العام، الذين يمكن توصيف حالهم بأنهم في مرحلة ما بعد الفقر، أو الفقر المدقع. وحسب تعريف البنك الدولي يصل الإنسان إلى مستوى الفقر المدقع، عندما يبلغ ما يتقاضاه يومياً نحو 1.90 دولار، أي نحو 57 دولاراً شهرياً. هذا هو اليوم فعلياً راتب فئات واسعة من موظفي القطاع العام اللبناني، وفي مقدمتهم رجال الأمن.
"لم يعد الراتب يكفي لبدل النقل من البيت إلى الثكنة العسكرية"، يقول سامر الذي دخل السلك العسكري في العام 2016. وهو يحتاج يومياً إلى 20 ألف ليرة للوصول إلى عمله، بعدما استغنى عن استخدام سيارته، لنفاد مادة البنزين. صحيح أن الدولة رفعت بدل النقل إلى 24 ألف ليرة يومياً، لكن المشكلة ليست ببدل النقل، بقدر ما تتعلق بعدم القدرة على الاستمرار في ظل الغلاء الشامل. وحسب سامر لم يعد معظم موظفي القطاع العام قادرين على تأمين أبسط احتياجات أسرهم: "الراتب في الوضع الحالي يكفي مصاريف التدخين والنقليات فقط. وإن أردت شراء وجبة طعام أفكر في الموضوع أكثر من مرة. فأقل وجبة يصل سعرها إلى 30 ألفاً. وراتبي الذي لا يتجاوز مليون و200 ألف ليرة، لن يكفيني ثمن وجبات يومية"، يقول سامر.




يحتاج العسكري في لبنان لنحو 400 ألف ليرة كحد أدنى، لينتقل من منزله إلى مقر عمله، إذا كان مكان عمله قريباً من مسكنه. أما إذا كان في محافظة أخرى، فعليه يدفع أكثر من 50 ألف ليرة للانتقال إليه، ومثلها للعودة إلى منزله.

عمل بالسخرة
ما كتبه العسكري شربل فرح قبل انتحاره، عن المستلزمات الأساسية التي يحتاجها العسكري، تعطي صورة واضحة عن التكاليف الشهرية لرجال الأمن. فبين رسوم شهرية ثابته تقتطع من الراتب، بدل تقاعد وطبابة واستشفاء واشتراك تعاضد، تصل إلى 178 ألف ليرة، إضافة إلى 400 الف ليرة بدل نقل، يمكن القول أن 50 في المئة من أساس الراتب تبخر. وفي ظل سياسة التقشف المتبعة في المؤسسات العسكرية، وانعكاسها على نوعية الوجبات، مع غياب اللحوم، قد يضطر الجندي إلى شراء سندويشات أقل سعر للواحد منها هو 30 ألف ليرة، ولم يكن سابقاً يتخطى 4 آلاف ليرة. وهذا يعني عملياً، أن رجال الأمن باتوا يعملون بالسخرة.

وهذا الواقع ليس نتيجة أزمة تعاني منها المؤسسة العسكرية، بل نتاج أزمة اقتصادية ومالية تسبب بها النظام السياسي، وأصابت شرائح المجتمع اللبناني كافة.

وضع مأساوي
في دوائر صيدا الحكومية، يجلس موظف من الفئة الثالثة في مكتبه بلا كهرباء. وبطبيعة الحال بلا تبريد. وهو يتقاضى زهاء مليونين و200 ألف ليرة شهرياً، كانت تفوق 1460 دولاراً، وأصبحت نحو مئة دولار على السعر الحالي للسوق السوداء (19500 ليرة). ويقول هذا الموظف لـ"المدن": "لم يعد الراتب يكفي لشراء الخبز والماء للبقاء على قيد الحياة". وهو يفكر يومياً في ترك الوظيفة، لكنه لا يملك البديل. وانتقل إلى السكن مع أهله، لأنه لم يعد قادراً على دفع تكاليف معيشته وزوجته وطفله الصغير. ويقارن بين قيمة راتبه حالياً وقبل عامين، فيقول: "كنت في السابق قادراً على تأمين المستلزمات اليومية كلها. وكنت أوفر جزءًا من راتبي لمساعدة أهلي. أما اليوم فسددت راتبي كله ثمن فاتورة اشتراك المولد الكهربائي للحصول على أربع ساعات. أنها مذلة حقيقية".

وحال هذا الموظف تشبه حال عشرات الآلاف من موظفي القطاع العام، والمتعاقدين والأجراء، الذين كانت لا تتعدى رواتبهم 300 دولاراً (قبل خريف 2019) في أفضل الأحوال.

أساتذة الحزن والأسى
تشعر مي -مدرسة مادة علوم الحياة في القطاع الرسمي- بالأسى والحزن. ليس بسبب تآكل قيمة راتبها، بل لأنها شارفت على التقاعد، وستتقاضى راتبها التقاعدي بالليرة اللبنانية، الذي فقد أكثر من 90 في المئة من قيمته.

وراتب مي نحو ثلاثة ملايين ليرة، كان يوازي ألفي دولار سابقاً، وصار لا يتعدى 150 دولاراً في الوقت الراهن. وكان راتبها يكفي لتأمين مستلزمات منزلها، وتعليم بناتها الجامعي. وكانت تأمل أن تعيش شيخوخة محترمة، بعد سنوات من التعب.




مؤلم ما تشعر به مي. وهذه حال أساتذة التعليم الرسمي الذين لا يكفي راتبهم عملياً لتسديد ثمن كتاب مدرسي لتعليم أبنائهم، بعدما وصل سعر بعض الكتب إلى 500 ألف ليرة في الحد الأدنى.

فخالد ونسرين، يعملان في التعليم الرسمي منذ 10 سنوات تقريباً. ويؤكد خالد لـ"المدن" أن راتبه وزوجته، يبلغ نحو خمسة ملايين ليرة، أي نحو 250 دولاراً. وهذا مبلغ لا يكفي لشراء الكتب المدرسية لأطفالهما الثلاثة، أو حتى شراء القرطاسية، والأدوات الخاصة للعودة إلى المدرسة. وبحسبة بسيطة -يقول خالد– "أحتاج إلى 20 مليون ليرة لشراء القرطاسية والكتب المدرسية. فثمن الحقيبة المدرسية وصل إلى مليون ليرة".

أما نسرين، فترى أن المشكلة الحقيقية التي تواجهها في الأيام المقبلة، تتعلق بكيفية تأمين الطعام، مع ارتفاع سعر ربطة الخبز إلى أكثر من 8000 ليرة.

وتحتاج نسرين لربطة خبز يومياً، بمعدل 240 ألف شهرياً. وإن بدا هذا الرقم قليلاً قياساً إلى مدخول العائلة، لكنه عملياً يشكل نحو 5 في المئة من أساس الراتب. فكيف بتدبير ثمن الحليب والأجبان والألبان، والتي تشكل الوجبة الرئيسية لطلاب المدارس؟!